رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرثاء الخفى من منصور إلى عاصى الرحبانى

منصور الرحباني، ثاني الأخوين رحباني. والذي رحل عام 2009، بعدما فارقه أخوه عاصي بما يزيد عن العقدين. ارتبطا بحالة فنية فريدة في الشرق. يوقعان أعمالها باسم: الأخوين رحباني. ولا يستطيع أحد تفكيك من كتب ومن لحن ومن وزّع سوى القليل جدًا ممن واكب تجربتهما مع فيروز، والكثرة الساحقة منها تخمينات، خاصة، ممن كان صغير السن آنذاك ولم يعرف خفايا التجربة الرحبانية ولم يشهدها تتخلّق أمام عينيه.

 

 

أكتب ما أكتب لا لتحليل أو نقد أو شيء إلا تبيان الرباط الذي ربط هذين الأخوين ولم يستطع أحد فكه حتى اليوم وانعكاسه شعرًا مضمرًا في الأغنيات. عندما أصيب عاصي بجلطة الدماغ عام ١٩٧٢م وعولج منها في قصة شهيرة. انبثقت أغنية من أشهر أغاني السيدة فيروز وهي: سألوني الناس وضمّت إلى فقرات مسرحية المحطة. وقصة الأغنية باتت معروفة إذ كانت فكرة لمنصور الرحباني عندما سمع لحنًا لزياد الرحباني، فطلبه منه، وكتب كلمات جديدة على اللحن. وكان أول تعاون لزياد الرحباني مع والدته. الطريف أن كثيرًا من المتابعين للتجربة الرحبانية والذين يزعمون امتلاكهم أسرار علاقتهما، ينسبون القصائد الفصحى دوما لمنصور والعامية لعاصي زعمًا أن الأول لا يقدر على العامية والثاني لا يستطيع الفصحى. وفي كلمات هذه الأغنية دحض لما يحبون زعمه. السامع الأغنية- وهو غير مخطئ- يظنها رسالة من فيروز لزوجها. لكنني أزعم أنها كلمات منصور عن مشاعره الحقيقية تجاه أخيه اللصيق، لنركز بالكلمات باللتي ألبسها صوت فيروز: سألوني الناس عنك يا حبيبي، كتبوا المكاتبيب وأخذها الهوى، بيعز علي غني يا حبيبي.. لأول مرة ما منكون سوا! نعم فيروز من تغني لأول مرة على المسرح ولا يكون عاصي واقفًا بعصاه أمام ناظرها يقود الفرقة ويراقب أدائها. لكن الكلمات برأيي تمثل منصور، هو من رسم مشاعره تجاه أخيه اللصيق.. الدليل؟ أولًا: المتنبي يستخدم لفظ الغناء بمعنى الشعر، خاصة عندما قال لكافور: هل في الكأس فضل أناله؟ فإني أغني منذ حين وتشرب! ثانيا: وهو الأهم: سأرحل عائدا إلى العام 1988 بعد عام ونيف على رحيل عاصي، وأجلس على مقعد أحمر من مقاعد مسرح البيكاديللي، حيث تعرض أمامي مسرحية "صيف ٨٤٠"، وسأغض الطرف عمن قال قايل إن المسرحية من كتابة عاصي، فهو ينسى مسرحيتي "المؤامرة مستمرة" و"الربيع السابع".. وهذه قصة أخرى. أمامي على خشبة المسرح هدى حداد تغنى، وهي من مظاليم الفن، وتلك قصة أخرى. ماذا تغني؟ ندهوك.. ندهوك وسرقتنا ليالي صعبة! كتب الصيف ودهب الغربة أخدوا حبي!.. أي حب الذي أخذ في الصيف؟! سيف البحر حبيبها في المسرحية لم يرحل. لكنه طبعًا منصور وجدها فرصة ليرثي أخاه مرة ثانية، عندما وصله خبر وفاة توأمه الروحي، وكان في دمشق: خلص المشوار.. بشمس نهار.. يا هم جديد! أنا وحدي اليوم.. ولأول يوم.. وأنت اللي بعيد!.. هناك رجل بات لوحده مرة ثانية بعد انطفاءة عاصي الأولى.. هذه المرة عاصي صار بعيدًا ولن يعود حتى يعرف سر الإشيا ومعنى الإشيا! منصور الذي بات نصفًا وحيدًا كتب ولحن أغنية أخرى في نفس المسرحية: جايي من العتب.. جايي.. صوتو يقلي: بدي روح!! يا لصوت عاصي الذي يملأ جنبات النفس بالخوف والرعب والحسرة.. يكمل منصور وصف خسارة رحيل نصفه الآخر: وإذا راح وخلصت الحكاية.. مين بدو يداوي المجروح؟! ثم يختزل طفولة الأخوين كما حكاها كثيرا في حوارات متلفزة بسطر: ومين راح يرسملي صور.. عالشتي.. وصوت الوتر..! تلك الطفولة التي عاد لها في ومضة بهذه الأغنية قائلًا: كنا عايشين.. سعدا وعاشقين.. تعسى وعاشقين.. على أمل الحب تصير ليالي وتصير سنين.. ثم ينهي بأمنية مستحيلة: وراح أنطر ألف نهار.. وشوفك جايي شي نهار!

 

منصور لم يكتف بهذه الومضات الشعرية التي ترثي نصفه الآخر. بل عاد مع عودة فيروز لمهرجانات بعلبك ليصنع لفيروز موالا بالعامية: طليت ع بعلبك بعد عشرين.. بسأل إذا شافك حدا ت يدلني! لا تقول منك هون!؟ بعد هذا السؤال الاستنكاري، يصرح بالحقيقة: بعدو عالدراج خيالك.. وبعدا طايره فيك الدني! ومعها تذكرت إجابة لمنصور الرحباني في لقاء إذاعي مختصرها بأنه لو كان من رحل أولا لعانى عاصي من كل ما عانى منه منصور من اتهامات تمس الإبداع من أوجه شتى وتقصره على طرف دون آخر. ولا يذكر من لم يقرأ صحافة الستينيات وبداية السبعينيات كيف كان الإبداع الرحباني يجير إلى منصور، الذي كان متواريًا، ولم يكن يتحدث ويصرح في وسائل الإعلام إلا عاصي، لذلك ظن الجميع أن منصور الذي يقفل عليه باب مكتبه، هو من يعمل ويشيد الصرح لوحده. لكن كل ذلك نسي وبات منصور ضحية.

 

لماذا كتبت ما كتبت؟ أولا لأنني أريد ألفت النظر لما أظنه من رثاء خفي أضمر في الأغنيات، وثانيًا لأنني أفكر من زمان بعيد بعيد بمقال طويل عن منصور الرحباني، ولدي أغلب الأفكار، لكنني أتكاسل، وأردت أن أقول ما أقول، لأشجع نفسي أولًا، إن وجد صدى عند متابعي الفن الرحباني ومحبي التأمل في جنبات ذلك الكون الإبداعي الذي صنعه أبناء أبضاي عمل في فوار أنطلياس اسمهما: "الأخوان رحباني".