رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مهرجان «الحوائط المحطمة» يزيل الحواجز بين البشر

الرقص المعاصر من اللمبى إلى تكسير الحوائط

الرقص المعاصر
الرقص المعاصر

فى مشهد لا ينساه الكثيرون فى فيلم «اللمبى»، حيث تجلس الراقصة «زيزى» ويقنعها الريجيسير ثم اللمبى بأن تؤدى رقصتها، لكنها تقول: «أنا مش رقاصة بالمعنى التقليدى.. أنا تعبير حركى.. الناس دى مش هتفهم اللى أنا هعمله»، وتبرر ذلك بأنهم سكارى وأنه لا أحد منهم لديه «email address».. هذا المشهد الذى جعل الكثيرين يعتقدون أن الرقص المعاصر أو التعبير الحركى أو المسرح الجسدى هى ألوان نخبوية من الفنون لن يتواصل معها أو يفهمها المواطن متوسط التعليم والثقافة أو غير المتعلم.. فإلى أى مدى تعتبر تلك الفرضية صحيحة؟.. هذا هو السؤال الذى تبادر إلى ذهنى فجأة وأنا أتابع فعاليات مهرجان «الحوائط المحطمة للرقص المعاصر» وأرى عروضًا يندمج عبرها الرقص المعاصر مع الرقص الشعبى، وتندمج ألوان من الموسيقى الشعبية والصوفية والغربية وأغانى المهرجانات فى نسيج متصل يربطه الجسد والتعبير الحركى والرقص، وكأن الرقص هنا بمثابة إعلان عن الهوية، هوية الجسد المادية والاجتماعية فى آنٍ واحد.. فن قادر على الوصول لكل الفئات، بل هو بالأولى فن منحاز للفئات المهمشة. 

لذا ربما يحتاج القارئ لأن يعرف أكثر عن الرقص المعاصر، ماهيته، وكيف يمكننا تعريفه وتعديل الصورة الذهنية المغلوطة عنه. 

تعبير جسدى حر يتمرد على قواعد الباليه 

الرقص المعاصر هو أحد فنون الأداء التى تعتمد التعبير الجسدى وظهر فى أوائل القرن العشرين، وكان بمثابة ثورة على الرقص الكلاسيكى «الباليه»، تمرد على قواعده الحاسمة فى إخضاع الجسد، والتى تشترط مواصفات جسدية قياسية تتطلب من الراقصة/ الراقص الالتزام بحمية غذائية قاسية، ليكون قادرًا على تشكيل أنماط من الحركة المعيارية الحادة التى تحتاج إلى مران طويل المدى ولا مجال فيها للارتجال، حيث إضافة البصمة الشخصية والتفرد فى «الباليه» محدودة بتنفيذ الحركة المرسومة سلفًا بمثالية، كما أن «الباليه» بتكويناته الحركية هو فن يتطلع إلى السماء، فحركة الأجساد كلها تتحرك رأسيًا صوب سماء الفضاءات المسرحية.. الجمال بمعناه الكلاسيكى حاضر بقوة فى فن «الباليه».. أما الرقص الحديث أو المعاصر فهو لون من الرقص مختلف كُلية، حيث تتحرر الأجساد وتنعتق تمامًا من الجسد النظامى.. وتتشكل بنيات الحركة فيه على نحو يحتفى بالأرض أكثر مما يحتفى بالسماء، وتحمل تشكيلات الحركة فيه ألوانًا وتيمات مختلفة لا تجدها عادة فى «الباليه»، مثل بنية الحركة السيزيفية «المكررة»، مثل الارتجال الفردى والجماعى، كما تحتمل إظهار فردانية الجسد والأداء.. حيث كل الأجساد جميلة وقادرة على التعبير عن نفسها.. جسد هزيل أم ضخم.. رفيع أم سمين، طويل أم قصير.

الأجساد مبدعة فى فردانيتها وحميميتها مع الأجساد الأخرى، حيث يكتسب الجسد هويته وفردانيته عبر علاقته بالأجساد الأخرى، كما يحتمل الارتجال الحر، حيث يمكن للراقص أن يخلق حركته فى لحظة إبداعية متقدة وواعية فى حضور الجمهور أثناء العرض المسرحى.

يمكننا أيضًا أن ندّعى أن الرقص المعاصر أكثر ارتباطًا بالحركات الاجتماعية، ومن هنا فقد ارتبط الرقص المعاصر بالحركات التحررية، فهو أداة مهمة وأساسية فى المسرح النسوى، وهو ما يفسر إقبال العديد من صانعات المسرح على توظيف التعبير الحركى فى عروضهن كوسيلة لتحرير جسد المرأة «الذى نال القسط الأكبر من القهر الاجتماعى والإخضاع فى مجتمعاتنا»، حيث تتبدى فيه القوة وتفرد الأجساد فى محاولاتها المستميتة للإفلات من السلطة المجتمعية.

كان المخرج منصور محمد فى بداية التسعينيات من أوائل المخرجين المصريين الذين أفردوا عروضًا كاملة للتعبير الجسدى، ودرّب عارضين ومؤدين، ثم جاء وليد عونى ليؤسس مدرسة الرقص الحديث فى دار الأوبرا ومركز الإبداع، ثم جاءت الكاريوجرافر والراقصة والمخرجة كريمة منصور، بعد عودتها من دراسة الرقص بأوروبا، لتؤسس مركز الرقص المعاصر كأول مدرسة نظامية للرقص المعاصر لها منهج معتمد من أهم أكاديميات الرقص فى العالم، ويصبح معظم وأهم العاملين بهذا المجال هم خريجو تلك المدارس فى الرقص والتعبير الجسدى.. وبخلاف ذلك هناك تجارب لبعض الفنانين من خارج تلك المدارس، الذين أسسوا مشروعهم على التعبير الجسدى وقدموا العديد من الورش والعروض المهمة فى الرقص المعاصر، مثل: نورا أمين وكريم التونسى وآخرون.

فعاليات المهرجان

هو مهرجان للرقص المعاصر، تقسم فعالياته على مدار العام، ففى شهر يناير يخصص المهرجان فعالياته للأفلام التى تتناول الرقص أو الأفلام التى تعتمد الرقص كتيمة أساسية.. وفى ٢٢ فبراير ٢٠٢٤ بدأت فعاليات الجزء الثانى من المهرجان المخصصة لعروض وورش الرقص، ويعتمد على صيغة ربما تحقق استدامة أكبر ونقل خبرات مهنية أوسع فى الرقص المعاصر، حيث تمت دعوة عدد من الراقصين والكاريوجرافر والمخرجين من مختلف أنحاء العالم ليعملوا على عروض يخلقونها مع عارضين مصريين. العرض الأول كان بمشاركة مؤسس ورئيس المهرجان حازم حيدر، وهو راقص ومخرج وكاريوجرافر، حيث شارك غيره من المصممين الذين تمت دعوتهم فى عرض عبرت الحركة فيه عن مستويات متداخلة من الصراع الإنسانى للبحث عن مساحة.

تلى ذلك العروض التى تم تقديمها على مدار أيام المهرجان فى مركز الجزويت الثقافى، وفى ستارت أب، والمركز الثقافى الإيطالى، والمركز الثقافى الإسبانى.. ونقدم استعراضًا سريعًا لما تسنى لنا متابعته خلال المهرجان.

«لعبة- صورة- مهمة»
من إخراج بن جرينبرج، وهو عرض يمثل منهجًا تدريبيًا غير علمى للأداء الجسدى المعاصر، يعتمد على تفجير طاقات الارتجال لدى الراقصين ودمج التمثيل بالرقص المعاصر. وقد درّب المخرج والمصمم عليه الراقصين الذين لفت نظرى كون معظمهم من خريجى مدرسة «ناس»، وهى المدرسة التى أسسها جزويت القاهرة للمسرح الجسدى منذ أكثر من ثمانى سنوات.
«المشروع»
من إخراج ماكوتو هيرانو، وهو محاولة للتأريخ الفردى عبر الحركة، حيث كل شخصية فى العرض تتحدث عن ذاتها وخلفيتها الاجتماعية والحركة أو الرقصة التى تحبها وتجيد فعلها وكيف أعادت اكتشاف ذاتها عبر الحركة. يتم ذلك عبر العمل مع فنانين من خلفيات ثقافية واجتماعية متباينة، فتتنوع طبيعة الرقص والحركة بين الشعبى والمغرق فى الشعبية «التعقيب» والصوفى والحركة المجردة. 
«ويرد»
من إخراج مسيج بيزك، وتعبير «ويرد» يشير إلى القدر والمصير، حيث الراقصون يحاولون دومًا تغيير قدرهم، إلا أن الأحداث والتحولات أسرع من محاولاتهم.. والعالم يسير فى اتجاه محو الإنسان لصالح الآلة التى هى بالطبع خارقة للطبيعة فى إمكاناتها مقارنة بالإنسان.. فهل يستطيع الإنسان استكشاف وتفجير طاقاته الحقيقية والصمود أم أنه سيستسلم فى نهاية الأمر ونصبح كائنات مهددة بالانقراض فى مواجهة فيروس كونى يبتلع الإنسانية؟
«الفزاعة»
عرض من تصميم وإخراج وأداء خلود ياسين، يستلهم نموذج حياة المرأة فى مجتمعاتنا، حيث اللهاث المستمر بين الأدوار المتعددة وما تتعرض له من تهميش وقولبة، فضلًا عن الألم المتولد من طبيعة الأدوار الفسيولوجية: الطمث والحمل والولادة، وما تخلفه فى علاقة المرأة بجسدها، بجانب نظرة المجتمع القاصرة لجسد المرأة، والتى تجعلها عرضة طوال الوقت للعنف الاجتماعى والرغبة فى السيطرة والتحكم فى علاقات اجتماعية تتسع دوائرها، من الأسرة للحبيب لزملاء العمل لبواب العمارة، ومطلوب من صاحبة هذا الجسد الأنثوى فى خضم كل هذا العنف أن توجد له مكانًا وتحدث التوازن المطلوب على حساب نفسها وجسدها وطموحها. 
«النداهة»
عرض أخرجه المصمم والمخرج دانى بانولو براقصات مصريات، يستلهم عرض «النداهة» الشخصية التى خلقها الخيال الشعبى، وهى جنية تخرج من البحر لتدعو الصيادين لاتباعها، ويسيرون وراءها دون تفكير وكأنها سحرتهم.. وقد أصبحت النداهة مع الاستخدام والتوظيف الشعبى معادلًا للجذب والانسياق وراء الأشياء التى نحبها أو نتمناها.
كما يستلهم العرض خلطة من الرقص البلدى «مركزًا على رقص عوالم القرن التاسع عشر» والرقص الصوفى ويدمجهما فى تناغم غريب، وكأن الرقص هو فعل طقسى أقرب إلى التعبد، والولع به هو نوع من الاستجابة للنداهة التى تدعونا للتناغم مع إيقاع الكون. تضمن العرض صورًا بصرية شاعرية تضافر الرقص والسينوغرافيا «الإضاءة والملابس تحديدًا»، حيث الملابس البيضاء المصممة بمرونة تسمح بإعادة تشكيلها، لتصبح أجنحة أحيانًا وتنورة أحيانًا ودوامة بيضاء تبلعنا أحيانًا أخرى.. كل تلك العناصر جعلت نص العرض نصًا شعريًا وشاعريًا تلتحم به الأرواح والأجساد.

«ده تانى»
عرض من تصميم وإخراج حازم حيدر، استخدم العرض تكنيكًا مختلفًا، وهو مسرح الرحلة، حيث تتجول مع شخصيات العرض رجالًا ونساءً متفرقين فى أماكن مختلفة.. فواحد فى الحمام وواحدة على الأريكة وآخرون فى البلكونة وفى حجرة النوم والمطبخ.. كلٌ متوحد مع ألمه يجتر وجعه مع صوت الموسيقى فى حركات سيزيفية مكررة لا تعكس سوى الألم والعبث واللا جدوى.. فعارض يضرب رأسه فى الحائط، والآخر يحمل على ظهره بابًا، والثالث مشدود بحبل، وعارضة تبكى وتتحرك فى كل الأروقة بسرعة شديدة وتتذكر كلمات حبيبها الكاذبة، والثانية تصرخ صرخة بلا صوت وتتقلب وسط الأوراق المبعثرة على الأرض، والثالثة تدخن ولا تشعر بالراحة فى أى وضع.
وفى لحظة معينة، كل تلك الشخصيات مجبرة على الخروج من شرنقتها، فكيف سنراها حين تندمج فى الجماعة؟.. كيف ينعكس هذا الألم الفردى على العلاقات الاجتماعية؟ كيف يولد غضب وعنف وصراع وتكالب على الفرص؟.. كيف نتحرك فى الخارج بطاقة اليأس والغضب الذاتى؟ ولماذا لا يتوقع أحدنا أن هذا الشخص الجارح هو ذاته شخص مجروح لم يتوفر له الوقت الكافى لتجاوز ألمه؟.
يلتحم الراقصون فى حركة محمومة وعنيفة وغاضبة وسريعة، وكلما سقط أحدهم من الإعياء عاد بعد قليل ليلتحم ثانية فى نفس الأجواء المحمومة، وحين ينهار الجميع أو يوشكون على ذلك تُوزع على الجمهور ورقة مكتوب فيها «يمكنك أن تعطى حضنًا للراقص إذا سمح بذلك».
هذا الشخص بكل ألمه ووجعه وما يشعر به من سوء ربما لا يحتاج سوى لحضن، لمؤازرة، لطبطبة خفيفة.. وحين يبادر الجمهور إلى احتضان العارضين لا يقاوم الجميع دموعهم التى تنسال بصدق وبحرقة، فجميعنا فيما يبدو كنا نحتاج إلى هذا الحضن.
وهنا تبادر إلى ذهنى أنى فهمت لماذا سمى المهرجان بـ«الحوائط المحطمة»، فربما جاءت تسمية المهرجان بالحوائط المحطمة، لأن الرقص هو إحدى أهم استراتيجيات التحرر وإزالة الحواجز بين البشر وهدم كل ما هو جامد مُتكلس فى مجتمعاتنا. لذا فإن اسم الحوائط المحطمة الذى اختاره حازم حيدر للمهرجان هو اختيار له دلالته العضوية فى إنتاج المعنى.
استمرت عروض المهرجان على مدار الأسبوع الماضى فى جزويت القاهرة، والمركز الثقافى الإسبانى، والمركز الثقافى الإيطالى، وستارت أب هاوس.. وكانت الدعوة مفتوحة للجمهور العادى ليستمتعوا ويشاركوا خبراتهم ووعيهم بالرقص والجسد، حيث لا توجد خبرة عامة مشتركة وتواريخ متصلة وذاكرة ووعى ضمنى أكثر ثباتًا من الجسد.. فأجسادنا هى الأكثر صدقًا من كلماتنا بالضرورة.