رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شخصيات إبراهيم داود

سألني أحد الأصدقاء عن رأيي الواضح في شخصيات الشاعر إبراهيم داود، يعني الشخصيات التي يكتبها صاحبنا ناثرًا؛ فقلت له ببساطة: إبراهيم، بالذات، محاط بمئات الشخصيات المميزة والعادية، وربما أكثر بكثير، تقع في طريقه صدفة أو تجمعه بها مواقف ما، والمهم هو لا يفوت الفرصة؛ فيتأملهل عميقًا من الداخل والخارج، من غير أن تحس بشيء، ويكتبها بعد ذلك، كل في وقته، وقد يضفي، من باب نقل الكتابة إلى آفاق مثيرة وشجية كآفاق الأدب، ورحبة كالحياة، سمات جديدة على بعضها، لكنها تكون مناسبة، ولا تكون مقحمة على الشخصية التي يتناولها.
قلت له أيضًا: بالرغم من الزحام الذي أشرت إليه حول داود، إلا أنه إنسان غير مزدحم؛ والمعنى أنه صافٍ وليس مشوشًا، وبالرغم من كل الأكاذيب التي تحاصر الناس، إلا أنه يقتنص أصدق لحظاتهم مطلقًا، والمعنى أنه يتوخى الصدق، وعلى هذا فهو، فيما يكتبه عن الآخرين، صافٍ وصادق، وليس أجمل من متابعة كاتب هذه خصاله، ولا بشر صفوا بصفائه وصدقوا بصدقه.
بالنسبة للمميزين فإنه أحيانًا يحدث عن جوانب أخرى، خلاف تميزهم، ومثلًا قد تظهر كتابته واحدًا مشهورًا بالحكمة والأناة كأنه أهوج غير قادر على ضبط نفسه (يتعمد كشف جانب خفي من الرجل)، لكنه يفعل حريصًا على كرامة المتكلم عنه، أي بشكل نبيه ونبيل، غرضه إبراز البساطة المتجذرة في الشخصيات المركبة ليساويها بنقائضها، وبالنسبة للعاديين فالأرجح أنه يبحث عما لا يكون عاديًا فيها، فليست العادية شاملة في الأشخاص المنعوتين بها، هكذا يرى الموضوع، وبهذا المنطق نفسه كثيرًا ما يحولهم إلى نجوم وأساطير، لافتًا النظر إلى رفعة الرتب جميعها.
قد يذكر إبراهيم أسماء الذين يكتب عنهم صراحة، وقد لا يذكرها مكتفيًا بإظهار ملامح منها تبين خفيفًا عمن يكتب، لكنه، في كل ما يكتبه عن هؤلاء، يكون نفسه، فلا يتعدد بتعدد شخصياته الأثيرة، ولا تطبع عليه الشخصيات، أيًا كانت، آثارها.
أسلوبه بسيط وآسر، يكتب كرجل مرتقب يتكلم في جلسة ودودة، ولا يغيب الوطن العزيز عن كتابته قيد أنملة، النيل بادٍ فيها والأهرام، والأهلي وبائعو الفل والعمال والمغنون والسمار وأهل الله..
لو كان الأمر بيدي لكلفته بكتابة المصريين كلهم، أظنه يستطيع، بل أظنه يرى فيهم كلهم ما يستحق أن يُشار إليه، ويقدر على أن يوجهنا وجهة معتبرة في النظر إلى كل مواطنينا باهتمام واحد.
المحبة لإبراهيم، الشاعر الكبير والناثر الكبير، وصل إلى شاطئه الحميم، من غير صخب فارغ، وملأ الآخرون أجواءهم وأجواءنا ثرثرة لكي يصلوا إلى الشاطئ نفسه ولم يصلوا، فاز ولم يفوزوا، وقد جمع العديد من شخصياته في كتب، وبقي أكثرها مجموعًا في قلبه، وبقي الذي قاله أخطر مما لم يقله، على عكس الشائع، له الخلود.