رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر والبرازيل.. تشابه الظروف وتوحد الأهداف

تقوم السياسة الخارجية المصرية، فى المرحلة الحالية، على رؤية واضحة بضرورة الاستفادة من جميع الأطراف الدولية، التى يمكن لمصر أن تتواصل معها، من خلال الاطلاع على التجارب الناجحة لهذه الدول، فى المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.. ونحن نهتم بالبرازيل، وغيرها من الدول التى حققت إنجازات اقتصادية أو علمية أو صناعية.. وتنطلق البرازيل في سياساتها الخارجية من أن التنمية تحتاج لبناء مُناخ سلمي في العمل، ولذا فهي تراهن على عالم متعدد الأقطاب، قادر على تطوير أدوات الحوار الدولي وتسوية المنازعات وإدارة اختلافاته بمعرفة ومنهجية وحكمة.. وتُعد البرازيل أكبر دولة فى قارة أمريكا الجنوبية، من حيث الجغرافيا والتأثير السياسى والاقتصادى، ولها تأثير كبير فى محيطها الإقليمى من خلال تجمع الميركسور، وهو من أهم التكتلات الاقتصادية فى العالم واتحاد دول أمريكا الجنوبية (الأوناسور)، الذى يُعتبر نموذجًا للتكامل الإقليمى، إلى جانب عضويتها الفاعلة فى مجموعة العشرين G 20.. زد على ذلك، مجموعة البريكس، التى تعتبر تاريخًا اقتصاديًا جديدًا فى مواجهة الرأسمالية المتوحشة، وتتمتع بعلاقات طيبة مع مصر والدول العربية، من خلال العلاقات الدبلوماسية التي زادت وتيرتها تميزًا على كل المستويات، بعد إنشاء آلية القمة العربية ـ الجنوب أمريكية، التى بدأت أولى قممها فى برازيليا قبل عشرين عامًا.. وتتشابه البرازيل ومصر في التفاوتات الاقتصادية والظروف الاجتماعية، والآمال العريضة للشعبين في تجاوز الأزمات التي خلَّفها الاستعمار بأشكالها التقليدية والجديدة.. ولا شك أن الإدارة المصرية تسعى الآن لتلبية الاحتياجات الاقتصادية، من خلال توفير فرص للاستثمار الخارجى، ودعم التعاون الاقتصادى والفنى مع الدول صاحبة التجارب المهمة والاقتصاديات الناشئة، التى كانت إلى فترة قريبة، تتشابه مع مصر فى كثير من ظروفها الداخلية والخارجية.
مائة عام كاملة على إقامة العلاقات الدبلوماسية، التي ظلت متميزة وقوية على مدار قرن من الزمن، بين مصر والبرازيل، جاءت ذكراها بالتزامن مع زيارة الرئيس البرازيلي، لولا دا سيلفا إلى القاهرة، استهل بها دا سيلفا زياراته الخارجية هذا العام، تلبية لدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي، تقديرًا منه لجهود مصر من أجل إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واتفاقًا مع موقف مصر الداعي لوقف إطلاق النار، وضرورة إنفاذ المساعدات لأهل غزة، للحد من تداعيات الكارثة الإنسانية داخل القطاع، والتقليل من كارثية الأوضاع التي وصفها إعلام البرازيل بـ(حمام الدم).. كما أنها تثمينًا عاليًا لجهود مصر في خروج الرعايا الأجانب من قطاع غزة، مع بداية الأزمة، التي أسفرت عن الإسراع في إعادة المواطنين البرازيليين من القطاع عبر معبر رفح.. إذًا، تأتى هذه الزيارة فى توقيت بالغ الأهمية والحساسية، بالنظر للأحداث التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، نتيحة تداعيات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، كما تحمل رسالة دعم لموقف مصر من القضية الفلسطينية ولجهودها في إحلال الاستقرار بالإقليم.
ربما يكون من المهم بدايةً التأكيد على أن انضمام مصر لتجمع البريكس جاء بتأييد برازيلي كامل، لما تمثله القاهرة من أهمية بالنسبة للبرازيل، حيث تُعد مصر على رأس قائمة الشركاء التجاريين في إفريقيا مع البرازيل، ومن المأمول أن تثمر زيارة الزعيم البرازيلي لمصر عن زيادة حجم التبادل التجاري، الذي وصل العام الماضي إلى ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار، بفضل إجراءات اتُخِذت لتساهم في زيادة حجم التجارة البينية، ناهيك عن أن انضمام مصر لاتفاقية منطقة تجارة حرة مع مجموعة من دول أمريكا الجنوبية والبرازيل، والانضمام لمجموعة البريكس، وهو ما سيؤدي لزيادة كبيرة في الاستثمارات والتبادل التجاري وزيادات الصادرات، إذ تُعد البرازيل، قاطرة الدول اللاتينية، وإحدى أهم الأعضاء في تجمعات إقليمية ودولية مهمة مثل: البريكس واتحاد دول أمريكا الجنوبية (يوناسور)، وتجمع دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وتكتل ميركوسور، ومنظمة الدول الأمريكية، إضافة إلى عضويتها في مجموعة العشرين ومجموعة الثماني للدول الكبار.. ويساهم في إنفاذ الصادرات المصرية من خلال البرازيل لأمريكا اللاتينية من جانب آخر، تشغيل طيران مباشر بين القاهرة وساوباولو، وتشغيل خط ملاحي بين الإسكندرية وريو دي جانيرو، أو ما بين موانئ أخرى في الدولتين.
منذ ما يقرب من عقد من الزمان، سبق أن سهلت البرازيل نقل خبراتها لمصر، دون قيد أو شرط، في مجالات مكافحة الفقر والبرامج الاجتماعية المهمة الأخرى، التي قادها الرئيس لولا دا سيلفا خلال ولايتيه السابقتين كرئيس لجمهورية البرازيل الاتحادية.. ولدى مصر الفرصة الآن للاستفادة من خبرات الدولة اللاتينية الكبيرة في تصنيع السيارات وتجميعها وكذلك قطع الغيار، بجانب خبراتها في تنمية الثروة الحيوانية والداجنة والأبحاث الزراعية، علاوة على زيادة صادرات البرازيل من السلع الغذائية، مثل السكر والحبوب واللحوم والدواجن، خصوصًا في ظل تداعيات الحرب الروسية ـ الأوكرانية على سلاسل الإمداد الغذائي.. وطبقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، فإن تحويلات المصريين العاملين بدول مجموعة بريكس زادت خلال العام المالي 2021/ 2022، حيث بلغت قيمتها الإجمالية نحو 84.7 مليون دولار، بينما كانت نحو 41.8 مليون دولار خلال العام المالي السابق، بنسبة ارتفاع بلغت 102.5%.. وفى المقابل، بلغت تحويلات العاملين من دول مجموعة البريكس فى مصر نحو 49.7 مليون دولار، خلال العام المالي 2021 /2022، بنسبة انخفاض قدرها 8.7%، عن العام الذي سبقه.. وجاءت البرازيل على رأس قائمة أعلى دول مجموعة بريكس في تحويلات المصريين العاملين بها خلال العام المالي قبل الماضي؛ متقدمة على روسيا، الصين، جنوب إفريقيا، وأخيرًا الهند.
تأتى أهمية العلاقات مع البرازيل الآن، نظرًا لما حققته من طفرة فى أوضاعها الاجتماعية والاقتصادية، جعلتها سابع اقتصاد فى العالم، ومن أعلى معدلات النمو الاقتصادي طوال العقد الماضى.. وبالفعل، استطاعت أن تنتشل قطاعات كبيرة من المجتمع البرازيلى من الفقر المُدقع إلى مستويات أفضل، من خلال عدة استراتيجيات اجتماعية تم تنفيذها على مدار العقد الماضي، فضلًا عن أن البرازيل دولة ذات موارد ضخمة، ولديها إمكانات عالية جدًا فى الاستفادة من مواردها الطبيعية.
ليس ذلك فحسب، بل إن للبرازيل قدرة في التأثير على صناعة القرار الدولي سياسيًا واقتصاديًا وماليًا؛ إذ تُعد قاطرة الدول اللاتينية، وإحدى أهم الأعضاء في تجمعات إقليمية ودولية مهمة، أشرنا لها في الفقرات السابقة.. لذلك، فإن الرئيس لولا دا سيلفا يمكنه لعب دور وسيط في الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، والدفع نحو حل الدولتين، في ضوء أن البرازيل تُعد طرفًا نزيهًا، ولديها علاقات متميزة مع كل من العرب وتل أبيب، فضلًا عن كونها نموذجًا يحتذى به في التعايش المشترك والتفاهم بين الجالية العربية ـ التي يزيد تعدادها على العشرين مليونًا ـ والجالية اليهودية في البرازيل.. هذا ومن المتوقع أن يتوجه دا سيلفا لأديس أبابا بعد الانتهاء من زيارة القاهرة، لحضور الدورة العادية الرابعة والأربعين للمجلس التنفيذي للاتحاد الإفريقي، وهناك، يمكنه الحديث مع إثيوبيا ـ التي تربطها بالبرازيل ورئيسها روابط قوية ـ حول التداعيات الخطيرة للإجراءات الأحادية التي تم اتخذها في ملف سد النهضة، وتضر بمصالح مصر والسودان.
■■ وبعد..
فقد التزمت البرازيل بسياسة خارجية منفتحة على الجميع.. ارتبط دا سيلفا بخصوم مختلفين، وبعلاقات متوازنة مع الولايات المتحدة ودول أمريكا اللاتينية، وهو مهندس (قمة الدول العربية ودول أمريكا الجنوبية) التى عقدت في 2005، وله العديد من المواقف فى دعم القضية الفلسطينية، وضد العدوان الإسرائيلى، ومع الدولة الفلسطينية.. وقد أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى المؤتمر الصحفى المشترك، اتفاقه مع الرئيس دا سيلفا، على أهمية إيقاف إطلاق النار فى قطاع غزة وإطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين والمسجونين الفلسطينيين، وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع بأكبر حجم ممكن، حفاظًا على أرواح المدنيين، وصولًا لإطلاق مرحلة ما بعد الحرب، من أجل إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، خصوصًا أن البرازيل من الدول التى اعترفت بالدولة الفلسطينية.. وبناء على هذا التعاون، فإن العلاقات المصرية ـ البرازيلية، التى تقوم على شراكات وتفاهم، ومواقف متوافقة تجاه القضايا العالمية، وتعاون ثنائى، تضع هذه العلاقات فى مكانة مهمة، تصب فى صالح البلدين.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.