رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف يمكن قراءة وثائق حرب أكتوبر المُفرج عنها للمرة الأولى في مصر؟

ليس سهلًا أن تقرأ الوثائق العسكرية لحرب السادس من أكتوبر 1973، خاصة وإن كان قد مرّ عليها نحو نصف قرن من الزمان، وأن نشرها للمرة الأولى يأتي في توقيت يحمل رسائل ودلالات مهمة للداخل والخارج.

فالوثائق التي تحمل كلمة "سري" تختلف عن "سري للغاية" وتختلف عن "سري جدا"، والمكتوبة بخط يد القادة تختلف عن المجموعة بالآلة، والمطوية غير المستقيمة، وكذلك الشكل والمضمون، سواء كانت أوراقًا رسمية، أو من كشكول مدرسي مثل التى عرفناها للفريق محمد الجمسي، أو ورقة "فولسكاب" منفصلة عن السجلات اليومية للمعاملات والعمليات والتحركات الاستراتيجية.

وحتى السبت الماضي 17 فبراير 2024، لم يكن هناك أي أرشيف أو وثائق رسمية مصرية حول أيام الحرب ويوميات المعارك وإدارتها مع إسرائيل، لكن وزارة الدفاع المصرية نشرت وثائق نادرة عن "أسرار الحرب"، تضمنت في معظمها أوامر إدارية وعسكرية بخط يد قادة الجيش آنذاك، لـ"خطط الاستعداد للحرب وإدارتها، وتحطيم الساتر الترابي، والتخطيط الاستراتيجي العسكري للحرب بمراحلها، وتصفية ثغرة الدفرسوار"، كما رصدت الوثائق دور الإعلام المصري، خاصة العسكري، في مجال الإعداد والتخطيط للحرب، ودوره في إحداث تأثير إقليمي ودولي. 

اللافت في بعض الوثائق المنشورة مدى الحرفية العالية للرسم اليدوي للخرائط العملياتية وخطوط الكتابة التي تحمل لمسات جمالية بقلم الحبر الأسود، بالإضافة إلى لغة الكتابة العامية المصرية والترقيم الحسابي والتنسيق والترتيب في سرد المطلوب توضيحه بدقة بالغة.

ويعتبر الكاتب والباحث التاريخي "محمد توفيق" أن تلك الوثائق طال انتظارها منذ أمد بعيد، موضحًا أنه يمكن قراءتها بأكثر من طريقة، سواء كانت عسكريًا أو سياسيًا أو حتى اجتماعيًا، فلا يمكن قراءة الوثيقة بدون العودة لكواليس وتوقيت كتابتها وما كان يحدث في هذا اليوم من التاريخ، لافتا إلى أن نوع الخط المكتوب به يحمل دلالات عدة إذا كان على مهل وإذا كان كُتب على عجل.

ويؤكد توفيق، في حديثه لـ"الدستور"، أن بعض الوثائق تشير أحيانا إلى عمق عملية التمويه، فاستغلال الكراريس والكشاكيل المدرسية كان طريقة للخداع والتمويه باعتبارها لن تكون مصدرا ظاهرا لمعلومات سرية عسكرية، مشيرًا إلى أن بعض أوراق المراسلات تحمل أختاما وأخرى لا، وهو ما يكشف نية مرسلها بأن تمر على عدد من الأشخاص في مناصب ومهام عدة كوسيط له خصوصياته أم كانت مباشرة من يد ليد فقط.

واعتبر "توفيق" أن وجود كلمة "سري" في بعض الوثائق قد لا يعني بالضورة أنها ذات أهمية قصوى، خاصة أنه ربما كان المقصود منها التمويه إذا وقعت في يد تدور حولها الشكوك، مثلما كان يحدث في بعض الأوقات مع الجنود لاختبارهم والتأكد من أمانتهم.

وحسب "توفيق"، فإن الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل كان يهتم للغاية بالوثائق التي كان يقدمها في كتبه ويكتبها في مقالاته الصحفية، معتبرًا أنه كان ينظر للوثائق باعتبارات سياسية أو أدبية أكثر منها عسكرية أو حتى اجتماعية، مؤكدًا أن المصريين لم يعتادوا الاطلاع على الوثائق العسكرية إلا عبر 4 مصادر خلال الفترات الماضية، على رأسهم الأستاذ محمد حسنين هيكل بحكم اقترابه من صناعة القرار وعلاقته مع الرئيس جمال عبدالناصر وقادة الجيش، إضافة لرئيس هيئة عمليات الجيش السابق سعد الشاذلي، الذي أظهر بعض تلك الوثائق في مذكراته، مرورًا بالفريق أول محمد فوزي وزير الحربية قبل حرب أكتوبر، نهاية بالكاتب الصحفي موسى صبري الذي ألّف كتابًا بعنوان "وثائق حرب أكتوبر"، الذي أمضى 9 أشهر كاملة وهو يعد هذا المؤلف الضخم، فى اتصالات مستمرة على أعلى المستويات السياسية والعسكرية، وزار جبهة القتال عدة مرات، واستقبله الرئيس أنور السادات ثلاث ساعات، واختص الكتاب بأحاديث خاصة، وحصل المؤلف على وثائق سرية سياسية وعسكرية.

اللافت في الوثائق المنشورة للمرة الأولى هو التغير الكبير في استراتيجية الدولة المصرية، والتى طالما نادي المؤرخون بضرورة إرساء طريقة للإفراج عن وثائق الدولة للاستفادة منها في الأغراض البحثية والدراسات الاستراتيجية المستقبلية، إلى جانب استخدامها في إعادة ترميم بعض الأحداث التي أحدثت جدلا واسعا في بعض الأحيان، لكن التفاؤل الرحب بصدور تلك الوثائق يشير إلى أن الباب سينفتح خلال الفترات المقبلة لبعض الوزارات والجهات السيادية لمراجعة ونشر وثائق الحرب، والتى تأتي على رأسها "الخارجية المصرية" والأجهزة الأمنية، فبات الآن هناك لجنة مسئولة عن "الإفراج عن وثائق أكتوبر" وتعمل بجهد دءوب حريص على أن يعلم الأجيال حقيقة ما جرى.

ما الشيء الخفي الذي كشفته الوثائق؟ وما الأمر الجدلي التي اشتبكت معه؟ وما هو الأمر الذى أرادت الوثائق أن تعمق تصورنا له وترمم نظرتنا لفهمه؟ وما الذي غاب عن تلك الوثائق خاصة في هذا التوقيت؟

أسئلة جوهرية ومشروعة، وللإجابة عنها سنحتاج لفهم عميق لتلك الوثائق المنشورة. بالطبع هناك تغير تاريخي في سلوك الدولة المصرية التى لم تعتد على الكشف عن وثائقها وأوراقها، وتأتي تلك الوثائق ضمن محددات استراتيجية، على رأسها السجال المصري الإسرائيلي بشأن الحرب في غزة ومحور صلاح الدين الحدودي، وفي إطار احتفالات مصر بمرور 50 عاما على انتصارات أكتوبر. والاستعداد لقراءة تلك الوثائق لا يقودنا إلى استنتاجات نهائية متسرعة ولكنه يضعنا في سياق التاريخ والجغرافيا معًا، ويحتاج لفهم دقيق لطبيعة تكوين الجيش من 3 جيوش "الجيش الأول والجيش الثاني والجيش الثالث"، ولكل منها فرق متعدّدة تتخذ من كل محافظة مقرًا لها، حيث توزع قوات الجيش المصريّ على النقاط الحدودية والمركزية في الجمهورية المصرية، لحماية الأرض والشعب، وكذلك نظم التكويد والأرشفة للسجلات اليومية والأوامر العملياتية المفاجئة أو السنوية.

مقارنة الوثائق المصرية حول حرب أكتوبر 1973 بوثائق الحرب العالمية الثانية ووثائق حرب فيتنام، ربما تساعد على فهم طبيعة الأوراق التى باتت متاحة للعالم بأسره وللقراء بمختلف توجهاتهم، وبالرغم من أن المغزى من وثائق الحرب العالمية الثانية كان سياسيا بحتا، وأبرز ما جاء فيها كان كشفا عن خطة وضعها ونستون تشرشل "لإغراق ألمانيا بالغاز السام" في حال تعريض حياة بريطانيا للخطر أو تقصير أمد الحرب عامًا. وكذلك وثائق حرب فيتنام الخطيرة التي كشفت عن أن "الحكومة الأمريكية كذبت على الشعب"، فيما أن الوثائق المصرية تحمل طابعًا عسكريًا عملياتيًا بحتًا، وإن لامست السياسة فتكون للانسجام ضمن خطط عسكرية لتحقيق الخداع الاستراتيجي. مثلما كشفت إحدى الوثائق المكتوبة بخط اليد عن الخطة "سلامة"، التي كشفت كيف نفذت مصر خطة الخداع الاستراتيجي التعبوي للعملية الهجومية "جرانيت ٢ المعدلة"، وغيرها من الوثائق التي تبرز الدور العربي للجزائر وتونس وليبيا والمغرب في دعم مصر خلال الحرب.

نهاية، للوثائق كلمة أخيرة تجيب عن كل الأسئلة الغامضة وتشكل الحقيقة التاريخية التي هي أهم وأخطر من أن تلخص فى عبارات عامة، أو دعايات سياسية. وهي التي لا تجعل الرأى العام أسيرا برد الفعل للرواية المناهضة، ومثلما يعتبر الكاتب عبدالله السناوي "كل طرف ينظر من زاويته حسب ما تتوافر أمامه من معلومات بحكم مدى قربه من صناعة القرار وحجم إلمامه بصميم المعلومات، وكل طرف يتصور أن التاريخ يبدأ من عنده".