رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انهيار الإرادة

التماسك فى مجال الكيمياء من خواص المادة الجوهرية التى تتجاذب فيه الجزيئات بقوة تجاذبات إلكترونية متبادلة تُشكل هيكل كل جزىء، وهذا التجاذب الإلكترونى يصون الهيكل الكلى للمادة، فإذا ما تعرضت المادة لأى مؤثر كالضغط أو الحرارة فما تلبث أن تتسع المسافات بين الجزيئات وتضعف قوة التماسك وتتحرك بحرية أكبر آخذةً بالتحول إلى شكل جديد، وكلما كانت القوى بين الجزيئات شديدة التماسك يُصعب تحريكها إلا بطاقة أقوى، وكلما ضعفت تبدأ فى التحرك بسهولة حتى تنهار من داخلها. 
يبدو أن مشهد الانهيار هذا ينسحب على الإنسان أيضًا لأن الكيمياء فى تكوينه وحركته تعتمد على تفاعلات كيميائية كثيرة، وبمقدار ما يتعرض له من ضغوطات ومؤثرات وتحديات ومغريات تتبين قوة تحمله ومقدار مقاومته لمصادر ما يتعرض له. وهو ما يُشكل الإرادة التى يتمتع بها. إرادة الإنسان ترتكز على مبادئ اكتسبها وقيم تبناها وقناعات طورها عبر تنشئة أسرية، وتربية والدية، وتدين، وتعليم، وعلاقات اجتماعية، وتجارب ذاتية، وخبرات تراكمية، ومعارف ثقافية، وسمات شخصية وراثية ومكتسبة. 
نتيجة كل هذه المكونات التراكمية تتشكل الإرادة التى لا يمكن اعتبارها حرة مطلقة، فنموذج إرادة القوة لا تظهر إلا من خلال علاقة مضادة تقاومها. فالمواجهات، والصراعات، والتحديات، تضم علاقة قوى شد وجذب، هجوم ودفاع، فعل ورد فعل بصورة شمولية، فإرادة النجاح والتميز والإنجاز والنشاط والتفاعل يُقابلها إرادة معاكسة تتمثل فى التردد والفشل والإهمال والخمول والكسل. ونموذج السعادة والأمل والتفائل ضدها الحزن واليأس والتشائم، فى تصور لقوة تبسط هيمنتها وتسلطها على القوى الأخرى التى بدورها تقاوم هذه القوة لتدحرها. لذلك لا يمكن عزل هذه القوى فكل تنازع بين قوى الإنسان تتجسد رؤيته فى سلوك الناس كتعبير عن صراع علنى بين قوى بعضها ضد بعض، الذى بدوره ينسحب على العالم الذى يُعد ساحة أوسع لصراع القوى. فالعالم ليس إلا مجموعة دول وشعوب تحكمها علاقات وتتجاذبها مصالح. 
مقابل هذا تتفاوت خبرة الأفراد فى التعامل مع متغيرات الحياة، وفى الغالب تنخفض خبرة الغالبية أمام وسائل وأساليب تغيير الاتجاهات وتوجيه السلوك فتتغير الرغبات وتتحول الخيارات. وقد تتبدل القناعات وتتأثر الأفكار، لوقوع الفرد رهن وهم حرية الاختيار أمام إرادة مسلوبة فى عالم مضطرب يموج بصراع الايرادات وطغيان المصالح. الغرب الذى تقوده واشنطن يسعى لبسط مزيد من الهيمنة تحت شعار القوة العسكرية على ساحة الحرب فى أوكرانيا لكسر إرادة روسيا وابتزاز دول أوروبا التى أخذ البعض منها يسعى حثيثًا لينضم لحلف ناتو الذى يلوح فى الأفق خسارته فى الحرب الأوكرانية التى تبدو حربًا بين النخب وليس بين الشعوب. 
اليوم الغرب ليس مستقرًا ولا معافى بل تتعاظم أمراضه، وتزداد عوامل تفككه، فانهيار الإرادة الأوروبية وتراجع استقلاليتها وهامشية تأثيرها لم تعد خافية، فقد أضحت أبرز دول أوروبا تعاقب نفسها بنفسها، تعيش واقعًا فى حقيقته تابع منزوع السلطة مسلوب القرار لصالح واشنطن. 
لم يكن نقل الحرب من أوكرانيا إلى فلسطين إلا لأن إرادة روسيا وحلفائها لم تنهر هناك، فاتجهت الرغبة الغربية لكسر إرادة العرب على أرض فلسطين فى غزة والتى لن، ولم، تتحقق منذ سبعة عقود، وحشد الإعلام الغربى كل إمكاناته وتقنياته وتحليلاته لتغطية التفاصيل الدقيقة لهذه الحرب لتحويل الأنظار عن الفشل فى حرب أوكرانيا، وليس ذلك فحسب بل تهز مصر هزًا اقتصاديًا وماليًا عنيفًا وهى صامدة، وتخضع لضغوطات معيشية وأمنية ليست لها مثيل وهى ثابتة لا لسبب إلا لأنها جارة للكيان الإسرائيلى الذى يبدو أنه لا بد أن تكون كل الدول المجاورة لهذا الكيان مسلوبة الإرادة منهكة تتصارع فى داخلها كما هى سوريا والعراق ولبنان. ولم تسلم السودان من التجزئة، وإشعال جذوة الحروب، وتضيق الخناق، وحبس الماء، وتشحيح الغذاء، إلا لكونها جار قوة العرب البشرية والتاريخية ونقطة شد وصل مياه النيل إليها لحبس الأنفاس والإتيان على المركز من الأطراف، لكن تظل إرادة وبأس ناس السودان تُبدد ما فعلوه، فالإرادة العربية كما هى على مر العصور عصية على الانهيار، بينما إرادة أوروبا الصفراء انهارت أمام حرب أوكرانيا، وإرادة نخب الغرب الداعمة لها فى طريقها إلى ذلك.