رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مقامات الغضب.. لا الترحال

باغتنى بسؤاله، ولماذا ننجب؟ ما الذى يريده بإنجاب طفل، أن نكرر بلاهته وجنونى، أنا إنسانة بلا حسنات، غير حسنة ألا أكرر خطايا الطبيعة، أى مأزق أوقعت نفسى فيه بقبولى الزواج منه. 

- أنا مريضة.. حقًا أنا مريضة، ورغم وجود أبى على قيد الحياة فأنا كيتيمة فى ملجأ. 

- من أى عبء كنت أتخلص؟ لم أكن أتخلص من أى عبء، لم تكن الأمور واضحة لى، لم أفكر فى الأمر، روحى وعقلى كانا مساحة بيضاء خالية من أى ظلال لشك أو خوف أو لهفة، مساحة ساكنة ليست لافحة حارة ولا باردة ثلجية، بيضاء وفقط ليس فيها ما يؤذى أو يجرح أو يفاجئ، دون معنى للأشياء، دون دلالات، دون حساب للخطوة والخطوات التالية. 

- ما بين الألم والضعف، يسهل أن يتم غسل مخك، وتشكيلك، كما يهوى الآخرون. 

يستهلك جسدى كل طاقته، فيرسل إشارات إلى مخى، وحده مخى يفهم إشارات جسدى يستجيب لها، فأبدأ فى الشعور بالنعاس وأدخل فى النوم حتى لو كنت موجودة فى أى مكان، يهزنى زوجى، يصرخ فىّ: كسفتينى. لكنى لم أعد أتأثر بصراخه، وكيف وهو الذى يصر على التعامى وعدم الشعور بى أو الانتباه إلى أن طاقتى تنفد، هل يلوم أحد السيارة إذا توقفت بعد أن نفد بنزينها؟ 

- لكن ألفة الأيام تتوارى، حتى إحساسى بالبيت يتلاشى، تنمحى من الذاكرة كل ألفة صنعتها البهجة، الفرحة، الصخب، الحوادث المتلاحقة.. أحداث كثيرة ومواقف وضجيج مبهج، لكنه مختلف، شىء فىّ غير متزن كأنى فى حلزونة لا أدرى هل هذه صرخات فزع أم بهجة، هناك صرخات كثيرة حولى، لكنى أعرف أننى أصرخ فعلًا، وأننى خائفة ومضطربة وفاقدة لاتزانى، حامض مر يصعد من معدتى مع كل هذه الشقلبات الجديدة، لا يبدو جسدى فى حالة اتزان، يتلقى ضربات من كل اتجاه، صفعات خفيفة تبدو مرحة لكنها تترك بصماتها على جلدى رضوض متدرجة الألوان بين: 

- الأصفر والأزرق والبنفسجى الغامق. 

- لم يكن صمتى كافيًا لكسر الدائرة الكهربية.. لقطع التيار.. كان وجودى ذاته هو المكمل للدائرة الجهنمية، لم يكن هناك من حل غير أن أفتح الباب وأخرج، لكنى لم أفعل. 

- لم يحدث أى شىء، ولم أكن أتوقع شيئًا، ولكن بعد أن تأكدت من هذه اللا مبالاة، من هذه القسوة، تمنيت لو أنه سأل: «مالك يا ماما»، لو أنه نادى: «ماما ماما»، إنه بكى: «ماما ماما». كان كبيرًا فى الثامنة.. هل كان كثيرًا لو احتضننى ومنحنى بعضًا من حياة، بعضًا من أمل يُحيى الموتى، هل كان كثيرًا أنى تمنيت أى شىء؟ تمنيت وتمنيت ولم أجد غير دمعة واحدة طفرت من عينى اليسرى، دمعة، حارة، ثقيلة، وحيدة مثلى.. كنت بلا جدوى أو قيمة.. سوى تجهيز العشاء. 

- تحاصرنى الكلاكسات أينما سرت، من سائقين يعتقدون أنهم يملكون الحارات والأرصفة، لا ألتفت لأن العالم يتسع للجميع، لكنّ السائقين الآخرين يرمقون سيارتى السوداء «التويوتا» الجديدة بغضب أعمى، تستفز رؤيتها خلاياهم المجهدة والمضغوطة، تستدعى ذكرياتهم أيام الغربة وضغوط العمل، وربما الحاجة إلى الاستيقاظ يوم الجمعة، يوم الراحة الأبدية، يلعنونى فى سرهم تلك التى تقود سيارة دون غربة أو ألم، ينفثون عن ضغطهم بالضغط على الكلاكس. 

- حين تصدم أحدهم ويرتطم جسد حى بكبوت سيارتك، تدوس على البنزين بأقصى سرعة، ليست اللا مبالاة أو اللا مسئولية، فقط أنت لا تستطيع أن تتحكم فى سيارتك أو نفسك، والأدرينالين يدفعك للهروب، حتى تستوعب ما حدث، وتحاصرك سيارة ميكروباص فتضغط على الفرامل، وتقف على بعد مائتى متر من جسد حى ينزف روحه على الرصيف، وأنت لا تستطيع أن تستعيد ما حدث.. وليس لديك سوى الخوف والرغبة فى الهرب، وبعض من الندم ستريقه، ليس الآن، فيما بعد، حين تمضى الحياة دومًا كما اتفق، وتتأكد أن كل المقدمات ستؤدى للنتيجة نفسها 

- تختلط الأنساب والحدود، لا تستطيع أن تتمسك بقواعدك وقوانينك طوال الوقت.