رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود السعدني| الحوار مستمر.. عمدة الكلام.. والولد الشقي حاضر النكتة

محمود السعدنى
محمود السعدنى

 

قد لا يعلم أغلب محبى «السعدنى» أن الراحل الواعى كاتبنا «أحمد بهاءالدين» صاحب السيرة والمسيرة الرائعة فى بلاط صاحبة الجلاله كان قد أبدى بأن الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» كان يريد إعادة كتابة «الميثاق» من جديد، فدعا كوكبة من الصحفيين للقاء معه، خصوصًا أنه حدد الأسماء وكان منهم عمنا «محمود السعدنى» حيث استمع فى الإذاعة لمسلسلات إذاعية من تأليفه، وكان من أشهرها مسلسل «الجدعان» «والولد الشقى» «والشيخ لعبوط»، وأعجب «عبدالناصر» بما كتبه السعدنى، لأنه كان يكتب بلسان الشعب، وكانت أيامًا يحترم فيها رئيس الدولة ما يسطره الأدباء والكتاب، بعكس ما أشيع، ويكفى زهو النهضة الأدبية فى زمن الستينيات، وكان النور يشع فى العقول فترتوى الأفئدة بمداد ما تسطره الكتابات بالأقلام.. وأنا وغيرى لا تعنينا كتابات السخط التى يسطرها الهلافيت، لأنهم كالفتافيت ضد الرموز الأدبية المصرية وبدعوى النقد، وهو فى حقيقته الحقد، وشتان بين نقد واعٍ لا يجرح، ونقد معيب ومجرح، وللنقد أصول وقواعد، ولا يفهم ويعى ذلك سوى الملم والدارس، وعليه لا غرابة فى أن تجد النقد السارح والعايب لكل من هب ودب، فلا تجد الرأى المستنير والمستحب.. 

والسعدنى سيظل أميرًا للكتابة الساخرة وكما استمر ما يقرب من الـ٦٠ عامًا، لأن كتاباته واعية ولم يسطرها تحت تأثير مخدر الحشيش، كما كتب أحد فاقدى الدلالة والإدراك والوعى، لأن كتابات السعدنى لم تكن مهستكة أو مبعككة أو مربكة، وهو من عاصر الكبار من أسطوات مهنة الكتابة والأدب، فبالله عليكم من يجرؤ أن يحقر أمير الشعراء أحمد شوقى أو عميد الأدب العربى طه حسين؟

وقد سبق وأبديت رأيى فى البرنامج الإذاعى «دندنة» عندما استضافتنى المذيعة «يثرب» على موجة إذاعة الشباب والرياضة فى سهرة إذاعية قاربت على الساعة، وقلت إن «السعدنى» نتوء من شجرة الحياة المصرية بحلوها ومرها وسعادتها وشقاوتها وحزنها ومرحها وابتسامتها وضحكاتها وتعاستها وشقائها. 

فهو عصير الشعور لمواطن مصرى أصيل، وتلك حالة إنسانية فريدة، ولأن «السعدنى» هو العاشق للحياة بحلوها ومرها، كما هو العاشق للضحكة والابتسامة والنكتة والقفشة والمقالب، لأنه يحب الدعابة والمرح والفرح أيضًا. 

ويكفيك أن تقرأ سطورًا من كتاباته حتى لو كانت ناقدة أو لاذعة، وساعتها ستتملك الضحكات والقهقهات لما طالعته من سطور الكتابات التى لا تحتوى على حروف الفجور أو النفور، لأن الكلمات ماكرة وذات دلالات، وهى بالفعل كاللدغات، حيث النقد الساخر وليس بالفاجر، والذى يثير الشجون والمواجع، فتنتفض العروق من مداد الغضب، ولكن يتلاشى وفى ثوان من تأثير الكلام الساخر والمحبب.

و«السعدنى» كما سبق وأبديت وقلت فى حكايات «الولد الشقى» الذى صمم وحرص صديقى الكاتب الصحفى «مجدى الدقاق» وكان رئيسًا لتحرير كتاب الهلال ومجلة أكتوبر حرص على طبعه وإصداره، وقلت إن «السعدنى» له قصصه ومؤلفاته وكتبه، وما سطره من كتابات هو سحر حياته، بل وقفشاته ومغامراته وشقاوته، ومن خلال مشاويره وجولاته وعلاقاته ولقاءاته، ومن خلال رحلاته. 

ويكفى أن تعلموا ما عاناه، وما تعرض له على مدار حياته، من الفرح والمرارة والجهد والعرق والكفاح والشقاء وسهر الليالى والدخول فى المعارك بسيفه، «والقلم» لم يكن سيفًا لإحداث الألم بقدر ما كان يوحى بتحقيق الأمل.

ولطالما دخل فى معترك لقاءات المحاورات والمناقشات فى «حلبة» الرأى، لم يكن كالثور الهائج أو البغل فى الإبريق، ولكنه كان الفارس وليس بالمغامر وبلا هدف!

وهو من قرأ كتب السيرة وسيرة ابن هشام فاستطعم معانى الحكم والأمثال ولو كانت أزجالًا، وقرأ سيرة بنى هلال وكتب التراث، وفند أشعار جرير والفرذق، بل وامتدت قراءاته لكتب الصعاليك من الأدباء، ودواوين الشعراء ولو كانت لفارس بنى حمدان والبحترى.

والسعدنى لم يتخل عن طبيعته كواحد من أبناء البلد، فكما كنت تشاهده مرتديًا «البدلة والكرافت» تشاهده أيضًا واضعًا «اللبدة» على رأسه، ومتدثرًا بالجلابية والعباءة. 

وهو من كان يسعد بناس وأهل الأزقة والحوارى، لأنه الملم بالأحوال وهو الواعى والملم بكل صغيرة وكبيرة وكان يجسد ذلك من خلال كتاباته وتجلياته وسخريته، ويا طالما دافع عن أرزاق الغلابة وبالدرجة أن جعل لعنوان صفحته الأخيرة بمجلة المصور وسماها «على باب الله».

و«السعدنى» لم ينحن أو يطأطئ رأسه لأحد سوى لله وحده، وكان يردد «سيبها على الله»، فلم تخدعه الألاعيب أو مناورات خصومه، ولو وصلت الى إشعال المناوشات ولو تجاوزت فى حدتها! 

فمثلًا فى فترة سجنه من فترات حكم الرئيس الراحل «جمال عبدالناصر» كان يشاركه فى محبسه كوكبة من الكتاب والصحفيين والمفكرين والرسامين، وعندما تستمع له وهو يحكى ويقص عن ذكريات تلك الفترة تدمع عيونه على الأحباب والأصدقاء الذين عاشرهم، وكانوا قممًا وليسوا من الأصاغر أو المهمشين والكذابين والمدلسين كما نرى الآن ممن لا وزن لهم على الإطلاق، وصح القول عنهم بأنهم «الهباشين»! 

و«السعدنى» معروف للكل من أساطين الكتاب والصحفيين بأنه اختلط وعايش نوعيات لا حصر لها من «البنى آدمين»، فكما كان يجلس مع الأكابر تجده أيضًا ممتنًا وسعيدًا بأن يكون رفيقًا للمعدمين من الهلافيت والمساكين والشحاتين، وهو من له العديد من نوادر اللقاءات والحوارات، بل الاحتجاجات، ولو كانت ضد الرؤساء والملوك والأمراء، ولو مع المثقفين والأدباء والسياسيين والفنانين.

وقلم «السعدنى» أيها الأحباب من قراء «الدستور» يقطر بالسخرية، ولم يكن ولا حاجة، كما تفتق ذهن البعض، فقلمه يقطر بالسخرية وبحروف عذبة وموحية، وتجد فيض الكلام بجمل ومقطوعات كتابية توحى بالشهامة والمروءة والرجولة والمجدعة والمعلمة من خلال سرد القصص والحكايات والروايات عن الأرزقية والأفندية، ولو كان الحديث عن واحد من اللصوص والحرامية، 

ويا من تقرأون الآن، فالجلوس أو الاقتراب من دوار الكلام للسعدنى كان ممتعًا متعة ما بعدها متعة، فذهنه كان واعيًا وليس ساكنًا أو خامرًا. 

وأنا لن أنسى مشهد غزارة دموعه وكنا حوله وكان يسرد حدوته عن صدام حسين الذى صادقه عندما كان يدرس فى كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وكان المكان المفضل لجلوسهما مقهى «إنديانا» بالدقى وكان ممن شاهدوا هذا المشهد صديقه الحميم عمدة الجيزة شيخ العرب الراحل إبراهيم نافع وصديقه الحميم ومنذ أيام الطفولة الرسام طوغان والأديب الأدباتى خيرى شلبى وابن شقيقته الدكتور إيهاب عفيفى، ويومها حكى عن صدام وتحدث عن شهامته معه ومع أسرته عندما رحب به وأكرم وفادته ببغداد فى فترة منفاه خارج البلاد إبان حكم السادات، فبكى وسالت دموعه يوم شاهد مشهد إعدامه على حبل المشنقة ورفض صدام وضع جراب الإعدام القماشى على وجهه، فلم يهتز وكان شامخًا، وأفاض السعدنى فى الحديث عنه، لأن صدام حسين كان الرئيس العروبى بحق، وكان هو من يقلق ويهدد إسرائيل، ولكن حدثت الخيانات وبلع صدام طعم خديعة السفيرة الأمريكية بالعراق، وشجعته على مهاجمة الكويت واحتلالها وكان ما كان! 

رحم الله السعدنى الذى تجرأ البعض على الحط من قدر كتاباته وبدون خجل أو حياء ولا استغراب فى ذلك، لأنه يوجد العديد من البلهاء ويا ليتهم كانوا من النبلاء أو النبهاء!