رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عاد أردوغان.. فمرحبًا ببداية جديدة

 تختلف الدول فيما بينها لأسباب أيديولوجية، أو نزاعات حدودية، أو بسبب رغبة طرف في السيطرة على الموارد الطبيعية لدى الطرف الآخر، أو حتى بسبب ضغائن تاريخية، أو لعصبية دينية وطائفية وربما مذهبية. وكم تكتظ كتب التاريخ بسجلات نزاعات تفاقمت بسبب تلك الدوافع، أو لأسباب أتفه من ذلك بكثير. فكم قرأنا في السجلات عن حروب اندلعت أُزهقت فيها آلاف الأرواح بسبب طموحات شخصية لدى بعض الزعماء. 
وأيًا كانت مبررات الخلافات أو القطيعة السياسية، فإن وجود عقلاء يتصدرون المشهد السياسي لدولتي الخلاف يبقى أمرًا كفيلًا برأب الصدع مهما طال. وربما نتذكر- قبل عقد من الزمان - حين تباينت الرؤى في شأن تقدير المصالح الوطنية بين كل من مصر وتركيا. ساعتها، حدث نوع من الجفاء في العلاقات، ووقف الجانبان كل على طرفي نقيض حماية لسيادته وحقوقه. وهذا أمر مشروع في السياسة الدولية ومتكرر في علاقات الدول وفي حساباتها للمصلحة العليا. ولكن من قال إن السياسة لا تقبل التحرك للأمام أو أنها تعترف بالمواقف الجامدة؟ فلو كان الأمر كذلك لكان نصف العالم اليوم في نزاع مع نصفه الآخر. 
  استمر توتر العلاقات بين الجانبين حتى صدرت تصريحات وزارية تركية تعلن عن رغبتها في تقريب وجهات النظر مع القاهرة. بعدها كانت الاستجابة المصرية المحسوبة، والتي اشترطت أن تقترن أقوال الجانب التركي بالأفعال على أرض الواقع. وبعد الاستجابة التركية، عُقدت لقاءات ثنائية بين الأجهزة المعنية، ثم أتى دور الدبلوماسية على مستوى وكلاء وزارة الخارجية في البلدين. وخلال حضور الرئيسين "السيسي - أردوغان" انطلاق مونديال كرة القدم في قطر كان لقاء المصافحة، لتتلوه لقاءات مصارحة، وليصل الأمر في النهاية لهذه الزيارة المرحب بها شعبيًا ورسميًا، لتكون كفيلة بطي صفحة خلافات الماضي وبناء رؤية للعلاقات في المستقبل شعارها احترام متبادل ومصالح مشتركة. 
   واليوم، ونحن نشهد ما يقع على الساحة الفلسطينية عمومًا والغزاوية تحديدًا، كان لا بد لمحاولات التقارب المصرية التركية والتي قادها العقلاء في الجانبين أن تتسارع خطاها لتصل إلى حد اللقاء المنتظر بين الرئيسين المصري والتركي على أرض القاهرة، ولتخرج تصريحات كل منهما بنبرة تميزها عبارات الاحترام المتبادل وتقدير التاريخ الممتد بينهما والقواسم المشتركة وإعلاء لغة المصلحة العليا للبلدين في مواجهة تحديات إقليمية كان يمكن لها أن تستغل الخلاف الطارئ وتباين الرؤى السياسية لتزيد الأمر اشتعالًا وتأزمًا، ليخرج الطرفان خاسرين في نهاية المطاف.
  لقد أنهت زيارة الرئيس أردوغان إلى القاهرة سنوات من القطيعة التي نتمنى ألا تعود مرة أخرى إذا نظرنا للمصلحة العليا ليس فقط للبلدين، فما بالكم بمصلحة المنطقة كلها حين تتقارب القوى الإقليمية الأكبر، إذ لا يخفى على أحد ما لكل من مصر وتركيا من مكانة وقدرات سياسية وعسكرية في منطقة الشرق الأوسط. ولعل هذا التقارب المصري التركي يكون مدعاة لتشكيل قوة إقليمية قادرة على مواجهة أي عدو متغطرس، خاصة إذا سعت كل قوة منهما إلى تقريب المسافات ووجهات نظر الدولتين في القضايا ذات الاهتمام المشترك مع قوى إقليمية أخرى تشغلها معهما ذات القضايا وتواجه معهما نفس التحديات. 
وعلى الطرف الآخر، فإن رشد وخبرات الدبلوماسية المصرية غالبًا ما سيكون لها دور في تعديل مواقف إقليمية كثيرة كانت تركيا طرفًا فيها مع جيران لها، وجاء اللقاء ليقرب الرؤى، لتقوم الدبلوماسية المصرية بعده بدور الوسيط لحل تلك الخلافات. كما نتوقع أن يكون لهذا اللقاء الذي تحقق بين الزعيمين دور في حلحلة الأزمة الليبية، والمضي نحو خروج الأشقاء على حدودنا الغربية من نفق الخلافات التي أنهكت الدولة الليبية منذ سنوات طال أمدها.
   والغريب أن العلاقات الاقتصادية والأكاديمية بين البلدين لم تنقطع طوال سنوات الخلاف المؤقت، وربما كان هذا هو الذي يبعث على الطمأنة من أن لهذا الخلاف نهاية وإن طال مداه، فطالما كانت هناك مصالح اقتصادية مشتركة، فإن هذا يعني ارتفاع مستوى العلاقات من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي، وهذا هو المعيار الأهم والأبقى - في نظري - عند تقييم مستوى علاقات الدول.