رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تضرب (أغنياءَ الحرب) بالداخل!

 

(١) 

من مشاهد الدراما التى تستوقفنى كثيرًا والتى أصبحت مقارنة ببعض ما نعاصره اليوم  كالمشاهد الكوميدية، مشهد مسلسل (دموع فى عيون وقحة) حين كان سقف الطموحات غير المشروعة لمعلم المقهى (على الشريف) أن يقوم بالحصول على كيلو سكر لتشغيل مقهاه!

كما يستوقفنى مشهد إحساس جمعة الشوان بالندم على قيامه بالتهريب حتى قبل أن يعمل لصالح المخابرات المصرية!

حين تكون أى دولة فى حالة حرب، تظهر دائمًا طبقة (أغنياء الحرب)، وليس بالضرورة أن تثرى تلك الطبقة من الاتجار المباشر فى الأسلحة، أو تقوم بدور حصان طروادة أو الخيانة المباشرة كما نشاهدها فى الأعمال السينمائية أو نقرأها فى القصص البوليسية.

فأغنياء الحرب أو الـ(نوڤو ريش) هم من يكونون ثروات غير مشروعة - ولا تتناسب مع دخولهم أو وظائفهم أو حرفهم أو مناصبهم - عن طريق الاستفادة بأى شكل من حالة الحرب التى تخوضها تلك الدولة!

فالتجار - على سبيل المثال الأوضح والأكثر شيوعًا - الذين دأبوا  على محاولة احتكار السلع وتخزينها فى أوقات السلم العادية لتحقيق أرباحٍ حرام، يهبطون درجاتٍ أخرى فى سلم هذ الحرام ليصبحوا فعليًا وبلا مواربة أو تجميل من أغنياء الحرب حين يقومون بنفس الفعل المحرم فى أوقات الحرب! فهم محتكرون فى أوقات السلم والظروف الطبيعية للبلاد، وهم أغنياءُ حربٍ وسماسرةُ أوطانٍ فى أوقات الكوارث أو المِحَن الوطنية أو الحروب! 

(٢)

ولقد أعلنت هذه الطبقة المعاصرة فى مصر عن نفسها بشراسة منذ مساء يوم ٢٨ يناير ٢٠١١م وبعد انهيار الأوضاع الأمنية فى عموم مصر.

ففى ريف صعيد مصر ظهرت على الفور مجموعاتٌ تتاجر فى الأسلحة، وتمررها للعائلات واللصوص، وتتكفل بتوصيلها لبيوت العائلات وأوكار لصوص المواشى على حدٍ سواء.

 وكان صوت طلقات النار لا ينقطع فى كثيرٍ من القرى منذ الغروب حتى شروق اليوم الجديد لردع اللصوص وللإعلان عن وجود قطعة سلاح فى هذا البيت أو ذاك. 

بينما انتشرت مجموعات أخرى للتجارة فى المخدرات فى مدن مصر نهارًا جهارًا، وكان بعضهم يعرض بضاعته وكأنه يقف على (فرشة خضروات)! ثم انضمت مجموعاتٌ من تجار مختلف السلع والمنتجات وعلى رأسها المواد الغذائية لطبقة أغنياء الحرب عبر ممارسات احتكارية لم ينقذ الشعب المصرى منها سوى تدخل القوات المسلحة المصرية بتوفير منافذ بيع لهذه السلع فى جميع محافظات مصر.

وفى جنوب مصر ظهرت مجموعاتٌ أخرى - مصرية ومن جنسية عربية إفريقية - وكونت مافيا جديدة  للسطو على بعض المناطق الجبلية فى الصحراء الشرقية للتنقيب عن عروق الذهب في الجبال التى تحتوى على نسب منه، وبعضهم كون ثرواتٍ طائلة، بعضُها أعلن عن نفسه فى شكل بناياتٍ شاهقة فى مناطق قروية كانت حتى وقتٍ قريب تنتمى لعصر البناء القروى البسيط والبدائى أحيانًا.

وفى هذه السنوات التى كانت الدولة المصرية تخوض حربها الوجودية على حدودها الشرقية ضد ميليشيات مسلحة مختلطة من مصريين وجيران ومرتزقة مختلفى الجنسيات، كان أغنياء الحرب مشغولين فى حربهم ضد المصريين لتكوين الثروات الحرام. 

ولم يقتصر تكوين هذه الطبقة على المسجلين والمشبوهين جنائيًا أو البلطجية، إنما شمل بعض كبار التجار، وحفنة من رجال الأعمال، وآلافًا من  المواطنين الذين حاولوا الاستيلاء على قطع من  الأراضى فى كثير من مدن مصر.

(٣)

بعد أن بدأت الدولة المصرية فى التعافى، وطهرت أرضها من دنس ميليشيات التكفيريين بدماء أبناء القوات المسلحة ورجال الشرطة المدنية، اتجهت لمواجهة مظاهر ومشاهد توحش طبقة أغنياء الحرب من مافيا السلاح والمخدرات والأراضى وكبار تجار بعض السلع وبعض الفاسدين من الموظفين حتى بدأت الأمور تعود لأوضاعها الطبيعية. 

بالتوازى مع ذلك لم تتخل مصر عن آمالها المشروعة فى بناء دولة مصرية الهوى والهوية، عصرية الفكر والبناء. ومن أجل تحقيق ذلك فقد كانت مصممة على المضى قُدمًا فى تنفيذ رؤيتها العملية على عدة محاور، اقتصادية وثقافية واجتماعية. فى هذه الفترة وقُبيل كوفيد انكمشت طبقة أغنياء الحرب على نفسها قسرًا عنها استعدادًا لأن تتوحد مرة أخرى مثل الفيروسات التى تكمن لفترة حين تتم مهاجمتها انتظارًا للحظة مناسبة - أو محنة مصرية جديدة - لعودتها أكثر شراسة وتمددًا.

 وقت انحسار موارد مصر من العملة الصعبة بفعل جائحة كوفيد كان هو الوقت الذى رأت فيه هذه الطبقة مناخًا نموذجيًا لتلك العودة الشرسة. واتخذت لنفسها من الاستيلاء على أكثر ما تستطيع الحصول عليه من العملات الصعبة هدفًا جديدًا. وانضمت (للنوڤو ريش) أعدادٌ جديدة من المصريين العاديين ومن (الضيوف)، خاصة من الفريق الآسيوى متخفين خلف واجهة تجارة الأقمشة أو أنشطة المطاعم.

(٤)

تلاقت مصالح هذه الطبقة بشكلٍ مباشر مع قوى خارجية أرّقها ما تقوم به مصر من مشاريع بنية تحتية عملاقة ومشاريع تنموية طويلة الأمد، وقوى أخرى محلية وإقليمية  معادية للدولة المصرية منذ ثورة يونيو.

تلاقت المصالح ونشأت شبكات مختلطة من مصريين وغير مصريين على هدفٍ واحدٍ، هو منع مصر من الحصول على العملات الصعبة من مصادرها التقليدية المشروعة مثل السياحة أو تحويلات المصريين بالخارج. 

فكان هناك من يجمع تلك التحويلات خارج مصر، مقابل أسعار باهظة من العملة المصرية يقوم بتسديدها آخرون هنا.

وفى مجال السياحة انتشر السماسرة فى جميع المناطق السياحية لالتقاط هذه العملات من أيدى العاملين بالقطاع، أو حتى بإغراء السائحين أنفسهم بسعرٍ يجعلهم لا يولون وجوههم للمصارف أو شركات الصرافة.

كان هدف القوى الخارجية واضحًا وهو إجبار مصر على التوقف عن المضى قدمًا فى تنفيذ مشروعها ببناء الدولة، بينما كان حلم الثراء الحرام هو دافع الفريق الأكثر من أغنياء الحرب الجدد من المصريين، ومضاعفة الثروات الموجودة بالفعل لدى كبار الديناصورات كان دافع هذا الفريق محدود العدد نافذ التأثير. 

بينما قرر فريقٌ آخرٌ منهم - والمكون من بعض التجار - أن  يجعلَ من الأسعار الوهمية للدولار هو البوصلة الوحيدة لزيادة أسعار السلع، وأن يحجبها من الأسواق من وقتٍ لآخر لإيهام الناس أن أى زيادة وهمية فى سعر الدولار يفرضها أغنياءُ الحرب قد تسببت فى ارتفاع فورى للأسعار واختفاء السلع.

 وبذلك فقد عملوا جميعًا كفريق واحد وإمامُهم الشيطان،  يتساوى فى ذلك مَن تسمع فى محلاتهم إذاعة القرآن الكريم، أو من يغلقون محالهم وقت الصلاة، أو من اختاروا لتجارتهم وسلاسل محلاتهم أسماءً ملتصقة بكلمة الإسلام مع غيرهم ممن ينفقون أموالهم الحرام على ملذاتٍ بشرية تقليدية! وساعد كلَّ هؤلاء بعضُ الفاسدين من الموظفين المحليين، سواء كان فسادًا مقبوضَ الثمن، أو مجرد تقاعس عن القيام بمتطلبات الوظائف من التواجد فى الأسواق والشوارع.

لقد كان المشهد كالآتى.. تركض الدولة المصرية فى محاولة تأمين الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية لمواطنيها، بينما تتمدد طبقة أغنياء الحرب، وتزداد سُمكًا ويزداد تشابك مصالح كبارها فيصبحون أكثر جرأة وأحيانًا جنونًا.

فأصبح على هذه الدولة أن تواجه كل ذلك فى نفس الوقت، تواجه حربًا ضروسًا بالخارج، وتحديات اقتصادية هائلة نتيجة تراكمات عقودٍ ماضية، ومؤامرات إقليمية قريبة الجغرافيا من مصر، ثم أخيرًا مواجهة هذه الطبقة التى تتمدد عددًا وقوة كل يوم وهى طبقة أغنياء الحرب.

(٥)

ثم اندلعت أحداث غزة، وألقت بظلالها وتوابعها القاتمة على مصر من تهديد المجرى الملاحى بالبحر الأحمر، وتأثُر الموسم السياحى وعدم بلوغه ما كان متوقعًا من ازدهار بناءً على مفردات الموسم الماضى. أثقل ذلك كاهلَ مصر بأعباءٍ أخرى، باهظة الكلفة الاقتصادية، ووصلت بالخطورة السياسية ومهددات الأمن القومى إلى حدودها القصوى.

اشتد الحصار على مصر، وتأثرت مواردها، وكشرت طبقة أغنياء الحرب عن قبح وجهها كاملًا وأصابها السعار، وصل هذا السعار إلى مشاهد عبثية، فعلى صفحة أحد مواقع التسوق الكبرى بإحدى المحافظات السياحية وجدنا من يعلن عن نفسه بأنه يشترى الدولار لمن يملكه بأعلى سعر، وفى بعض محلات الملابس من كان يسأل مرتاديها عن مهنهم ويعرض عليهم شراء الدولار لمن يعمل بقطاع السياحة، وأصحاب كافيهات حولوا كافيهاتهم لأوكار للاتجار فى العملة.

فى الأسابيع الأخيرة بلغ التوحش ذروته وقام الشيطان بالتنسيق بين الجميع، فكبار وأباطرة الطبقة يصلون بالسعر الوهمى للدولار إلى ما يقرب من ضعف سعره الحقيقى، بينما يتلقف التجارُ ذلك السعرَ الوهمى لمضاعفة أسعار سلعهم! 

وكان ذلك مثاليًا لمحترفى التزوير - سواء تزوير العملات أو الذهب - للنزول إلى حلبة صراع الديناصورات لاستغلال شَره الطامعين.

كان ذلك يحدث ومصر تخوض حربًا دبلوماسية واقتصادية شرسة وغير مسبوقة للحفاظ على حدودها شرقًا وجنوبًا، ولحماية مقدراتها التجارية على مدخل البحر الأحمر، أى أن عدة مئات آلاف من المصريين فى محافظات مصر لعبوا دور أغنياء الحرب الجدد وبلادهم تخوضها. 

ترى ماذا لو كان هؤلاء موجودين فى مشهد معلم المقهى فى مسلسل جمعة الشوان؟! ماذا لو كانوا موجودين وقت نكسة يونيو؟! 

الشهداء أحياءٌ عند ربهم يرزقون..كيف يرى شهداء مصر - الذين جادوا بأرواحهم منذ سنواتٍ قليلة دفاعًا عن هذه الحدود وعن هذا الشعب بمن فيه هذه الآلاف المؤلفة من الذين تاجروا بمصر - هذا المشهد؟!

(٦)

لقد ظنت هذه القوى الخارجية ومن ساندوها فى أهدافها من أغنياء الحرب بالداخل أنهم قد تمكنوا معًا من مصر، وأن الأمور خرجت عن سيطرة الدولة تمامًا. 

لقد غرهم الشيطان وأغواهم بالسير فى الطريق إلى نهايته حتى استفاقوا جميعًا على تلك الضربات القوية المشروعة. لقد كانت الدولة المصرية فى الأيام الماضية تعطى الجميع درسًا فى إدارة المعركة..ضرباتٌ قاضية وجهتها لأباطرة الطبقة، فخاف صبيانُهم وسماسرتُم ومُحلليهم، فكمنوا جميعًا.

صدماتٌ متتالية تلقاها الطامعون حين اكتشفوا أن كثيرًا مما اكتنزوه عبارة عن دولارات وذهب مزيف.

ثم أثبتت القيادة السياسية أنها غير منفصلة عما يعانيه مواطنوها، وأنها تستمد شرعيتها من شعبها.

تدخل الرئيس كعادة المصريين به، فى الوقت المناسب ففاجأ الواهمين بحزمة قراراتٍ اجتماعية لحماية شعبه الذى وثق به.

لقد كانت قرارات الرئيس الأخيرة رسالة للمصريين أن دولتهم معهم فى خندقٍ واحد تخوض معهم معركة حياتهم اليومية رغم ما تواجهه من هجمات خارجية بلغت ذروة تبجحها وغطرستها. 

فى الأيام التالية ستتوالى ضربات الدولة لطبقة المتاجرين بمصر وبالمصريين وقت الحرب.

وبقى على اكتمال المشهد أن تقوم إدارات الحكم المحلى بمختلف المحافظات بواجباتها الوطنية والقانونية والأخلاقية على الأرض بين الناس فى الأسواق والمناطق الشعبية الريفية والحضرية. 

فليس من العدل أو المنطق أن تكون القيادة السياسية متابعة ومنغمسة فى تفاصيل حياة المواطنين اليومية، بينما تغيب أو تتقاعس بعض تلك الأجهزة عن واجبها فتتوارى عن الشارع فى بعض مدن وقرى مصر.

بقى أن تتواجد تلك الأجهزة فى محافظات مصر لكبح جماح المتاجرين بنا فى الأسواق وضبط الأسعار لإجهاض محاولة الالتفاف على قرارات الرئيس، فالحرب ضد هذه الطبقة لا تزال فى ذروتها وعلى كل مسئول أن يقوم بدوره بشرفٍ يتناسب مع شرف القيادة السياسية لمصر.