رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثقافتنا.. من أين تبدأ؟

الشائع فى الدراسات الثقافية والنقد والفكر العام أن الثقافة المصرية بدأت فى عشرينيات القرن الماضى، مع ظهور الأشكال الأدبية والفنية مثل رواية محمد حسين هيكل «زينب» ١٩١٤، أو بميلاد الرواية الحقيقى كما يقول نجيب محفوظ على يد توفيق الحكيم فى «عودة الروح» ١٩٣٣، وأيضًا بظهور القصة القصيرة على يد محمد تيمور فى قصة «القطار» ١٩١٧، وما ترافق مع ذلك من بدايات السينما والمسرح وموسيقى سيد درويش. 

لكن ما قولكم فى شاعر ظهر قبل الميلاد الرسمى لثقافتنا بسبعمائة عام كاملة، هو السراج الوراق، الذى وصف بؤس أطفاله على العيد بقصيدة جاء فيها: «قد أقبل العيد وما عندهم.. قمح ولا خبز ولا فطره- فارحمهم إن عاينوا كعكة.. فى يد طفل أو رأوا تمرة.. تشخص أبصارهم نحوها.. بشهقة تتبعها زفرة»؟! وما رأيكم أيضًا فى ابن عروس، شاعر الصعيد العظيم، القائل: «لا بد من يوم معلوم تترد فيه المظالم» الذى برز إبداعه منذ ١٧٨٠، أى قبل البداية المعتمدة للثقافة المصرية بمائة وخمسين عامًا؟!. 

الواضح كما يخيل إلىّ أن تاريخ الثقافة المصرية أبعد مما نؤرخ به لظهورها، ولن أتطرق هنا للملاحم والسير الشعبية التى توغل فى أزمنة أبعد. كل ما أريد قوله إننا دأبنا على تعريف الثقافة عندنا انطلاقًا من ظهور الأشكال الأدبية والفنية المعترف بها، ومن ثم حسبنا أن ثقافتنا تبدأ فى عشرينيات القرن الماضى، على حين يرى كارل بروكلمان فى كتابه «تاريخ الأدب العربى» ضرورة إدخال حتى النقوش الباقية لأى شعب، وكذلك الرسائل والوثائق، فى دائرة أدب وثقافة هذا الشعب، طالما أن كل ظواهر التعبير اللغوى جزء من الثقافة. 

ومن هذا المنظور تصبح ثقافتنا المصرية أقدم من شكلها العربى الذى عم بعد الفتح الإسلامى لمصر ٦٣٩م، وأقدم من عشرينيات القرن العشرين. وأظن أننا حين نربط بداية ثقافتنا وظهورها فقط بمطلع القرن الماضى، فإننا لا نظلم ثقافتنا فحسب، بل وننزلق إلى مفهوم أشد خطورة، ألا وهو أن الثقافة ثمرة إبداع النخبة تتجلى فى الشعر والموسيقى والمسرح والروايات والكتب والفن التشكيلى، وبذلك نغفل امتداد الثقافة الشعبية الأطول زمنًا فى السِير والملاحم والأغانى والأمثلة والحكم وأغانى المهد والأعراس، ولكننا نهمل أو نغفل تلك الحقيقة. وتظل نظرتنا إلى بداية الثقافة عندنا محكومة بفكرة «إبداع النخبة»، الأمر الذى يتجاهل التراث الشعبى الطويل. 

من ناحية أخرى، فإن النظر إلى الثقافة من هذه الزاوية يجعلنا نتجاهل أن تغيير الواقع المادى ثقافة أيضًا، بمعنى أن بناء السد العالى كان عملًا ثقافيًا أدى لتغيير وعى الناس، وأن ثورة ١٩١٩، وثورة يوليو ١٩٥٢ فجّرتا ثقافة الرفض وتقديس الحرية والتمرد. وثقافتنا بهذا المعنى أبعد من تاريخ ميلادها المعتمد، وأبعد فى الزمن، وأقوى، مما يجعلنا بحاجة إلى تأريخ آخر، ونظرة أشمل، مع الاحتفاظ للرواد بكامل حقوقهم ومكانتهم كمبدعين شقوا مختلف الطرق الجديدة.