رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

خبطنا تحت بطاطنا.. نكشف بالتفاصيل الكاملة لأول مرة قصة أكبر سرقة فى تاريخ أحمد فؤاد نجم

أحمد فؤاد نجم
أحمد فؤاد نجم

أسس أحمد فؤاد نجم ما يمكن أن نسميه «شرعيته الثقافية» على أغنية انتشرت عقب 5 يونيه 1967.. الأغنية تحمل النظام ورأسه «الرئيس جمال عبدالناصر» مسئولية الهزيمة كاملة، وتعزيها إلى جبروت الرئيس وحاشيته وفسادهم المالى كذلك: «ما دام جنابه والحاشية بكروش وكتار».

هذه الأغنية معروفة بمطلعها الذى يقول: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا ما أحلا رجعة ظباطنا من خط النار.

حسنًا، السؤال هنا: هل أحمد فؤاد نجم هو من كتب هذه الأغنية فعلًا؟ أم أنه وضع اسمه عليها فقط «وتحمل مسئوليتها»؟

قد يبدو السؤال صادمًا، لذا ربما كان من المفيد أن نقلب فى الأوراق، لنعرف منبع السؤال، وهدفه، ونفتش عن إجابته إن أمكن لنا ذلك.

ربما لن نضيف جديدًا إذا ما استعدنا مسيرة نجم ما قبل ٥ يونيه، أقول «ربما» لن نضيف جديدًا، وربما إذا استعدنا تلك المرحلة اكتشفنا الجديد، فنجم حتى سن الثلاثين لم يكن له أدنى علاقة بالأدب أو الثقافة أو السياسة أو الفكر أو الشأن العام من قريب أو من بعيد، هو مواليد ١٩٢٩، وحتى عام ١٩٥٩ هو مجرد شخص لا تستقر له حال.

لا يمكن القول حتى إنه كان فقيرًا، فهناك الملايين من الفقراء يعيشون حياة عادية مستقيمة مستقرة، لكن نجم لم يكن واحدًا منهم، كما لا يمكن وصفه بالصعلوك، أى هؤلاء الذين لا يستقرون على حال، وينتقلون من مقهى لآخر، ومن قعدة إلى أمسية إلى ندوة، بل كان باختصار مرشحًا لحياة المنحرفين والخارجين على القانون.

حدث ذلك بالفعل عام ١٩٥٩ عندما ارتكب جريمة تزوير واستيلاء على أموال، أودعته سجن قرة ميدان مدانًا، ومحكومًا عليه بسنوات ثلاث، وهذا الجزء معروف تمامًا، بل إنه ربما يحكيه بشىء من الفخر، كما يحكيه كبار جمهوره بمحبة «صلاح عيسى مثلًا» كدلالة على معدنه الأصيل الذى تغلب فحول مساره من شخص أفاق منحرف إلى رمز نضالى وأديب مبدع وما إلى ذلك.

فقط يبقى السؤال عن التحول، كيف حدث؟ ومتى؟ ولماذا؟

الرواية المعتادة، والصورة الذهنية المشهورة، أنه التقى فى السجن بعدد من الشيوعيين، أثروا فى تفكيره، وأعادوا تكوين نظرته للحياة، وأقنعوه بالأفكار الثورية، ومن هنا نشأ اهتمامه بالبلد وأحوالها والعالم وقضاياه، وهذه الصورة خاطئة وكاذبة، جملة وتفصيلًا.

نعرف أنه لا أحد، ولا نجم نفسه، تبنى هذه الرواية، لكن تحصيل لأحاديث النميمة على المقاهى، وجلسات اليساريين فى السبعينيات ومن ورثهم فى بدايات الألفية من اليساريين ومن يسمون أنفسهم ليبراليين أو ثوريين أو غيره من تلك التسميات.

ما نعلمه يقينًا، أن نجم لم يلتق شيوعيين فى السجن، اللهم إلا لقاءات عابرة «إن صحت» بشخصين أو ثلاثة، منهم عبدالحكيم قاسم، لأوقات لا تكفى حتى لنقل أفكار، ولا تسمح بأكثر من دردشة سريعة، لا تسمح بتحويل مسار شخص من النقيض إلى النقيض، هو لم يكن مسجونًا سياسيًا، ولا معتقلًا فى الواحات مثلًا، بل كان سجينًا جنائيًا عاديًا، فكيف حصل التحول إذن؟ وكيف دخل نجم عالم الشعر والأدب والسياسة؟

الواقع أن المسئول الأول عن هذا كان مأمور السجن الرائد سمير قلادة غطاس، وذلك حسب رواية نجم نفسه، فهذا الرجل كان يتعهد المساجين بحسن الرعاية ويفتح لهم مكتبه «وجيبه»، وجيبه هو نص اللفظ الذى استخدمه نجم، وكان مشغولًا بكيفية تحويل مسارهم إن أمكن ذلك، ليكونوا مواطنين صالحين.

رأى سمير فى نجم «لماضة» وقدرة على رص الكلام، تؤهله لارتياد عالم الكلمة، خصوصًا أن سمير كان مهتمًا بالأدب، وشأن الكثيرين جدًا، كانت له محاولات فى كتابة القصة القصيرة، لكن مشاغل الحياة لم تمكنه من استكمال المسيرة، ما يعنينا هنا أن سمير رأى فى نجم قدرة على كتابة الزجل فعمل على توجيهه إلى ذلك المسار، وكان دائمًا ما يشجعه ويتابعه.

اللافت هنا أن التشجيع لم يتوقف عند كلمة «برافو» أو منحه بعض القروش أو الجنيهات، بل وصل إلى أبعد من ذلك بكثير، كثير جدًا فى الحقيقة، بداية من تحسين ظروف إقامته، وإمداد زنزانته بإضاءة خاصة استثنائية ليستطيع الكتابة ليلًا، فضلًا عن الأقلام والأوراق.

فى ديوان أحمد فؤاد نجم الذى كتبه داخل السجن نجد زجلية عن اللمبة، فقد كتب لمدير السجن زجلية يطلب منه «لمبة» تمكنه من كتابة ملحمة فى مدح الثورة، ربما كان مفيدًا أن نقرأ نصها:

بدأت أكتب ملحمة

عن ثورة الشعب العظيم

ولى عندك مظلمة

يا حضرة الأب الرحيم

أوضتى تملى مضلمة

ابعت لى لمبة يا كريم

دى تبقى هى المكرمة

وهو دا الفضل العميم

وهو ما يخالف رواية نجم عن معاناته فى السجن وظروف الإقامة الصعبة، وقصائد الهجاء التى كان يؤلفها «حسب روايته» ضد طبيب السجن ومسئولى السجن «باستثناء سمير» فسمير كان هو المأمور نفسه.

بعيدًا عن تفاصيل السجن، تولى المأمور سمير قلادة على نفقته الشخصية كتابة ما يؤلفه أحمد فؤاد نجم على الآلة الكاتبة، حتى يتسنى له محاولة نشره، وهو ما تحقق بالفعل، لكن قبل النشر نسأل عن محتوى أشعار أحمد فؤاد نجم، وهنا لنا ملاحظات:

الأولى، لم يكن فى الديوان أى إشارة أو ملامح ثورية وهذا طبيعى، كلها زجليات عن الأم وزفة العروسة وكفاح شعب الجزائر وكفاح ثورة يوليو ضد الإقطاع، مع قصيدة لابنه الذى ينتظر الإفراج عنه خارج السجن «لم يكن أحمد فؤاد نجم له أبناء ذكور» وزجلية أخرى لبنته، وهكذا.

الثانية، بعض الأسطر التى كتبها لم تكن له، إنما لفؤاد حداد، سمعها خلال بعض اللقاءات العابرة مع عبدالحكيم قاسم وشخصين آخرين شيوعيين مرا على السجن خلال فترة وجوده، وقد تعرف على هذه الأشعار بعض المثقفين عند نشرها فقال هو إنه عرف أن فؤاد حداد مسجون وقصائده ممنوعة فظن أنه بذلك ينشرها! ودعنا هنا نقرأ نص كلامه:

«كانوا بيسمعونى قصايد شاعرهم العظيم فؤاد حداد، ولو إن الكم اللى كانوا حافظينه من أشعاره كان قليل جدا، إلا إنه دخل قلبى، وأيامها كنت باكتب قصايد ديوانى الأول -صور من الحياة والسجن- فاعتقدت إنى أساهم فى نشر أشعار فؤاد حداد الممنوعة، فأخدت مقاطع منها على قد ما أسعفتنى الذاكرة، وأضفتها لأشعارى».

الثالثة، تصدير زجلية من زجلياته بخطاب إلى ابنته خارج السجن، يبدى فيها ندمه على خطئه فى حق المجتمع وحقها ورغبته فى التوبة وما إلى ذلك.

المهم، تعهد سمير قلادة الشاعر التائب، وساعده على الفوز بجائزة داخل السجن عن قصيدة كتبها فى عيد الأم، وقدمت له الجائزة فى احتفالية ألقى فيها زجلية تمدح مدير السجن إبراهيم عزت وهو غير المأمور سمير قلادة، فمدير السجن هو الآخر استجاب لحماس سمير وشارك فى تهيئة الطريق للسجين التائب، وبالطبع فالزجلية لا تمدح عزت فحسب، بل الدولة التى صارت تكرم الفنان وتهتم به:

«غنى يا بلبل قول أنغامك

قول سمعنى صدى الألحان

وإنت يا ورد يا نايم صحصح

وارقص يالا على الأغصان

نعسان ليه يا جميل على غصنك

اصحى وغنى مع الكروان

وإنتى يا فرحة ارقصى حوالىّ

وإنتى يا دنيا اضحكى فى عينىّ

عشنا وشفنا فى عهد الثورة

الدولة بتعطف ع الفنان»

لم يكن إذن «جنابه والحاشية بكروش وكتار!»

هل توقف دعم سمير قلادة عند هذا الحد؟ لا، فقد طبع، كما قلنا، على الآلة الكاتبة ذلك الديوان الذى «ألفه» أحمد فؤاد نجم «أو ألف معظمه إذا راعينا ما اقتبسه من فؤاد حداد، أو الله أعلم بحجم ما ألفه منه» ثم إنه قدم الديوان لمسابقة ينظمها المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وجائزة المسابقة طبع الكتاب الأول للمؤلف.

فاز الكتاب بالجائزة، وطبعه المجلس فعلًا تحت عنوان: صور من الحياة والسجن، بتقديم كتبته سهير القلماوى شخصيًا، وفى تلك الأثناء كانت قد انقضت مدة عقوبته عن جريمته التى ارتكبها، فخرج من السجن وتوجه لمنزل سهير القلماوى، التى رحبت به، وساعدته على الاتصال بيوسف السباعى والإذاعى طاهر أبوزيد، وكل هؤلاء وغيرهم قدموه كنموذج لمواطن تحول مساره من مجرم إلى مبدع بفضل رعاية الدولة واهتمامها بمواطنيها، بمن فى ذلك المنحرفون.

كيف إذن أدت كل تلك المقدمات إلى المسار الذى نعرفه جميعًا، كيف حدث التحول الثانى؟ التحول الأول كان من مجرم إلى مبدع بفضل الدولة، كيف يكون التحول الثانى من نموذج تدعمه الدولة ويدعمها إلى المناضل الثائر؟ كيف؟

فى سنوات ما بعد الإفراج عن نجم، عمل مع يوسف السباعى بمرتب بسيط، وحاول هو شق طريقه فى الحياة من هنا وهناك، وكانت له محاولات فى طباعة الدواوين بخلاف ديوانه الفائز بالجائزة، جرب هنا وهناك، وكان من المحاولات طباعة ديوان عبارة عن هتافات لكرة القدم، ولكن هذه المحاولات لم تسفر عن شىء، حتى جاء الخامس من يونيه ١٩٦٧، وما تلاه من أيام.

أين كان نجم فى تلك الأيام؟

ما نعلمه يقينًا أن أحمد فؤاد نجم فى الأيام التالية للنكسة مباشرة كان يقف فى صف جمال عبدالناصر بمنتهى القوة، وبحكم قربه من يوسف السباعى، فقد نشر عددًا من الزجليات التى تدعم عبدالناصر وترفض تنحيه عن السلطة لأنه «زارع فى الشدة أمانى»، ولأنه «عبدالناصر يا محبوبنا».

لكن، ما نشرته مجلة آخر ساعة لأحمد فؤاد نجم وقتها، لم ينتشر، بل ربما لم ينتبه له أحد من الأساس، فقد كانت تلك الزجليات وسط طوفان من الأشعار المؤيدة، لا يمكن تمييز صوت عن صوت منها أو التوقف أمام أحدها، ونجم لم يكن شاعرًا معروفًا أو حتى نصف معروف، عدد محدود من الناس يتذكرون قصة السجين المثالى، فمن ينتبه لشاعر وسط عشرات الشعراء يهتفون نفس النشيد، ثم ظهرت الأغنية الشهيرة: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا.

من الصعب تصور أن أحمد فؤاد نجم قد كتب «يا زارع فى الشدة أمانى» وفى نفس اليوم أوحتى خلال أيام يكتب «إن شاء الله يخربها مداين عبدالجبار»، إلا إذا كان فى تلك الفترة يلعب على الحبلين، ويرمى طعمًا هنا وطعمًا هناك حتى يعرف أى سنارة يمكنها أن تغمز، لكن حتى إبليس نفسه لا يمكنه فعل ذلك. 

الحديث هنا عن تحول الموقف مثلًا، أو تغيير الرأى يبدو مضحكًا، لكن دعنا نحاول التفكير فيه بشىء من الجدية، ولنقل مثلًا إن صدمة النكسة كانت كبيرة، جعلت الكثيرين يعيدون حساباتهم، أو جعلته هو تحديدًا يتحول، لكن كما أسلفنا، هذا ليس صحيحًا.

ما سجله نجم ونشره فى مديح عبدالناصر كان بعد النكسة وبعد التنحى، لا قبل ذلك ولا تلك، فلا يمكن القول بحدوث صدمة هنا، خصوصًا أن نجم نفسه سجل ما حدث فى تلك الأيام على خلاف الحقيقة، ولم يورد فى مذكراته شيئًا عن زجلية زارع فى الشدة أمانى وما تلاها، بل روى رواية واضحة التلفيق، عن أنه كتب يوم ٨ يونيه زجليته المشهورة واه يا عبدالودود، وسلمها لـ مجلة آخر ساعة، وأنه غيّر مطلعها كنوع من السخرية وما إلى ذلك، ثم إنه بدأ كتابة الزجليات المعارضة يومها، قبل خطاب التنحى ذاته، ثم بعد التنحى مباشرة كتب الحمد لله خبطنا، والتلفيق هنا لسببين:

الأول، التوقيت، ففى ١٤ يونيه نشرت آخر ساعة لنجم زجلية «زارع فى الشدة أمانى»، وفى ٢١ يونيه نشرت زجلية عبدالودود «أو عبدالمتعال» أى أنه استمر فى الكتابة والنشر والتأييد.

الثانى وهو المهم، أنه فى زجلية عبدالمتعال، قبل أن يعدل فيها ذكر أن الجيش المصرى الذى يحارب هو «جيش جمال»، ثم إنه بعد ذلك حذف ذلك التعبير واستخدم تعبيرًا آخر هو «تمة الرجال» بدلا من «جيش جمال».

فإذا كان نجم أسبوعًا بعد أسبوع ينشر ويؤيد فمتى وكيف ولماذا حدثت الصدمة والتحول، وإلى أى جانب كان نجم يقف؟ ثم السؤال الأهم، كيف يمكن كتابة الحمد لله بعد التنحى مباشرة، وهو الذى استمر فى التأييد على الأقل أسبوعين بعد التنحى؟

هذا التسلسل يجعلنا نستعيد ما كان يردده بعض معاصرى الحدث فى الجلسات الخاصة، وعلى رأسهم الكاتب الراحل جمال الغيطانى، الذى كان يقول كلامًا بدا لجيلنا عصيًا على التصديق، لكن سيناريو ما حدث طبقًا للأرشيف يجعلنا نعيد التفكير فيه.

عقب ٥ يونيه مباشرة كتب سيد حجاب مطلع الأغنية الشهير: الحمد لله خبطنا تحت بطاطنا يا ما أحلا رجعة ظباطنا من خط النار، وربما أضاف مقطعًا أومقطعين، ثم انتشرت الأغنية، ولكن مع انتشارها كان المستمعون المؤيدون لما فيها والمتحمسون له يضيفون على نفس الوزن والقافية، حتى أصبحت كما سمعناها.

هذه الكوبليهات المزيدة فى الأغنية، جعلت سيد حجاب يحجم عن نسبتها له، فهى ليست له فعلًا إن فكرنا فيها من الناحية الفنية والأدبية، كما أنها أقرب لهتافات المظاهرات، شبيهة بتلك الهتافات والأهازيج التى ظهرت فى ميدان التحرير منذ ٢٨ يناير ٢٠١١ وما بعدها، هى ليست أشعارًا وأغانى بالمعنى الفنى، فلا قيمة لنسبتها إلى شخص، هذا ما كان سيد حجاب يظنه.

مع انتشار الأغنية، وعدم وجود «صاحب» لها، ثم اهتمام وكالات الأنباء العالمية بهذه الزجلية تحديدًا قبل غيرها، قفز نجم فاحتل المساحة الشاغرة وادعى نسبتها له، مع ملاحظة أنه أشار إلى أن قصة الكوبليهات مجهولة المصدر، وإن كان قد قصرها على كوبليه واحد، أى أنها «حسب روايته» من تأليفه ما عدا هذا الكوبليه، بينما ما حدث هو أنه لم يكتب منها شيئًا.

أكبر متحمس لنجم، وهو من تولى تسويقه لسنوات وسنوات هو صلاح عيسى، لم يكن قد التقى بأحمد نجم قبل انتشار الأغنية، أو حتى بعدها بفترة، وذلك حسب روايته هو نفسه، كل ما ذكره هو أنه أحمد فؤاد «بقى نجم» فى غفلة من الزمن مع انتشار الأغنية باعتباره صاحبها.

كانت وكالات الأنباء تبحث عن «بطل» وهو كان مستعدًا للعب الدور، وجنى مكاسبه وتحمل عواقبه، ويالها من صفقة!