رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فلسطينيات فى الغربة

بما أنى ماليش وطن.. كانت جملة ضمن حوار دائر بينى وبين زميلة إعلامية فلسطينية تعيش فى الإمارات، حيث مكان عملها هى وزوجها الطبيب.. توقفت أمام قسوة الجملة، وكأننى نسيت الكلمات والعبارات التى تبادلناها قبلها وبعدها.

كانت هذه السيدة هى واحدة ضمن ثلاث سيدات فلسطينيات.. قابلتهن ربما بالصدفة فى ثلاث دول الإمارات وفرنسا وإيطاليا.. تحمل كل منهن حكايات وطنها وألم الفراق والغربة وإحساس الضياع حتى وإن لم يبد عليهن ذلك.

الأولى كانت فى الإمارات، وكنا نتحدث وقتها عن دبى، التى التقينا فيها، وكيف هو بلد جميل ونظيف، ويشعر المرء فيه بالحرية، ولأنها كانت تعيش هناك ما يقرب من العشر سنوات، هى وزوجها الفلسطينى أيضًا وأطفالهما، فكانت تحدثنى عن الإمارات بشكل عام، وكيف تشعر فيها بالأمان، وقالت لى إنها من «جنين»، وإن أهلها وأهل زوجها يعيشون هناك، وإنهما يحلمان باليوم الذى يستطيعان فيه جلب أهاليهما للعيش معهما فى دبى، وبالرغم من حكايات الزيتون فى موطنها جنين، وكيف يستخرجون الزيت منه، ومعيار نقائه، وأنه أفضل نوع فى العالم، وأنها تعرف جودة الزيت من رائحته، وأحيانًا من لونه، إلا أنها قالت- فى حسرة- الحياة فى فلسطين بشكل عام خطرة، وشرحت لى كيف تخشى على أمها وإخوتها كل يوم من أن يصيبهم مكروه، سألتها عن أبيها؛ فعرفت أنه توفى منذ زمن طويل، وكانت هى وأشقاؤها مازالوا أطفالًا.. وفى وسط الحكى، وأثناء تحدثها عن مدينة دبى قالت هذه الجملة «بما أنى ماليش وطن؛ فإن الإمارات بلد رائع أختار البقاء فيه طيلة حياتى»، كم كانت هذه الكلمات موجعة، ورغم استطرادها فى الحديث بعدها، إلا أنى تقريبًا لم أسمع شيئًا مما قيل بعد هذه الجملة، وشعرت أيضًا أننى نسيت مؤقتًا ما كنا نتحدث عنه قبلها، شعرت بمرارة وصدمة عن شعور هذه السيدة الفلسطينية بهذا الشىء، ليس لها وطن وهى صاحبة الوطن، صاحبة الأرض، وتساءلت فى نفسى، هل جميع الفلسطينيين يشعرون فى داخلهم بذلك؟ وتذكرت على الفور المثل المصرى العتيق «البيت بيت أبونا والغرب بيطردونا»، ولكن هنا الغرب يستوطنونا ويحتلون أراضينا، فنذهب نحن لأراضٍ أخرى نعيش بها ضيوفًا لآخر عمرنا، فى فضول سألتها لماذا تقولين إنك بلا وطن، فردت فى دهشة لأنها الحقيقة، وطنى مسروق، أهله يُطردون منه كل يوم، وأنا تعلمت أن أكون واقعية؛ لذلك أشعر أننى ليس لى وطن، ثم أضافت أنت عندك وطن تسافرين لكل دول العالم ضيفة، سائحة، ولكن نحن عندما نسافر نكون لاجئين، رغم مرور سنوات على هذا اللقاء، إلا أن كلماتها لم تفارقنى، نبرة صوتها عندما تحدثنا عن فلسطين كيف تغيرت، وكذلك تعابير وجهها، وتلح علىَّ ذكرى اللقاء بشدة منذ بداية حرب السابع من أكتوبر الماضى.

السيدة الثانية كانت فى باريس، وهى أستاذة جامعية تدرس اللغة العربية فى إحدى الجامعات العريقة هناك، تعرفت عليها عن طريق صديق مصرى يعيش فى باريس، شخصية لطيفة للغاية وقوية بملامح فلسطينية خالصة، قالت لى إنها من غزة، ولدت هناك، ولكن فى سنوات طفولتها الأولى انتقلت الأسرة إلى سوريا بعد أن استشهد عمها الشاب، الذى كان يبلغ من العمر ٢٢ عامًا برصاص الاحتلال الإسرائيلى، فخشى والدها على أبنائه، وربما خشى من ملاحقة السلطات الإسرائيلية لهم؛ لأن عمها كان من المناضلين ضد الاحتلال، فسافر بهم إلى اللاذقية واستقروا هناك، ثم سافرت هى إلى فرنسا وحصلت على الماجستير والدكتوراه، وعملت أستاذة جامعية وعاشت فى باريس، ثم أضافت أن عائلتها فى غزة بها أكثر من شهيد، منهم طفل كان يبلغ من العمر ١٣ عامًا، قتل وهو يسير فى الشارع برصاص قناص إسرائيلى، وكان يقول لأمه دائمًا إنه يريد أن يصبح طبيبًا، حتى يخفف آلام أهل بلدته، خاصة المصابين فى المواجهات مع الإسرائيليين، ولكن حياته لم تكتمل حتى يحقق هذا الحلم، وأطلعتنى على صورته، التى كانت على هاتفها، وقالت إنها التقطت له قبل موته بأربعة أيام فقط، كان صبيًا جميلًا وأتذكره عندما أرى شهداء الأطفال فى غزة الآن، وأشعر كأن إسرائيل تستهدف عمدًا أطفال فلسطين حتى لا يكبروا ويصبحوا أشداء وينضموا إلى كتيبة المقاومة ويحاربوهم، فلا يريدون جيلًا جديدًا من الفلسطينيين؛ لذلك هى فعلًا حرب إبادة.

كانت تحدثنى عن غزة بمرارة وتقول إنها تتمنى العودة لوطنها يومًا والاستقرار فيه، وكذلك أمها، وخاصة أن أباها كان يتمنى ذلك أيضًا، لكنه توفى قبل تحقق أمنيته ودفن فى سوريا، وأتذكرها جيدًا، وهى تقول لى أعرف أننا سنعود يومًا وفلسطين ستعود أيضًا.. لن نفقد الأمل، هى فقط مسألة وقت، وكانت دائمًا تتحدث عن إحساس مرهق ينتاب الفلسطينى الذى يغادر بلاده دائمًا أكثر من المتواجد بها، وهو إحساس الضياع، أن بلاده ضائعة ويريد أن يعثر عليها، لأنه يعلم أن فكرة رجوعه إليها ليست بسيطة، حتى الدخول إليها بمعاناة؛ لأنه لا يكون إلا عن طريق السلطات الإسرائيلية، التى هى السبب فى مغادرته وطنه، ولكنه مضطر ومجبر فى التعامل معهم، وأنها تعرف فلسطينيين رفضوا العودة لهذا السبب، حتى لا يتعاملوا مع الإسرائيليين، وقالت لهذا السبب هو الشعور بالضياع؛ لأنه ليس لك أرض لتهبط عليها.

السيدة الثالثة كانت فى روما.. حيث شعرت بصداع وأنا أتجول فى شوارع المدينة، ودخلت إلى صيدلية؛ لأسأل عن دواء أعرفه، كانت سيدة شابة وترتدى الحجاب، وحدثتنى بالعربية على الفور، بعد أن لاحظت أننى أيضًا عربية، وسألتنى «مصرية؟ أجبتها وكيف عرفت؟ ابتسمت وقالت من اللهجة والروح»، وتحدثنا عن الدواء وأعطتنى واحدًا آخر مفعوله أقوى، ثم دعوتها لتشرب معى قهوة فى الكافيه المقابل لعملها، فقالت إن دوامها سينتهى بعد نصف ساعة تقريبًا، قلت لها سأكون بانتظارك لتحدثينى عن موضوع الروح التى عرفت منها أنى مصرية.. جاءت وتحدثنا وقالت إن روما فيها مصريون كثر، وإنهم جميعًا مشتركون فى حلاوة الروح وخفة الدم، لذلك عرفتنى على الفور، ثم حكت قصتها، وكانت المفاجأة أنها زوجة شهيد، وأنهم من القدس وأن زوجها كان طبيبًا، ولم يكن يومًا من المقاومة، ولكن تصادف مروره أثناء واحدة من الاشتباكات فأصابته رصاصة إسرائيلية اخترقت صدره ومات، وترك لها ثلاثة أطفال صبى وفتاتين، وشرحت كيف عانت بعد ذلك، حيث لم تتحمل فكرة وجودها وعبورها يوميًا من المكان الذى استشهد فيه زوجها، كما أنها خشيت على أطفالها أن يلاقوا نفس مصير أبيهم يومًا ما، وشعرت بأنها محاصرة بين وجع الفراق وخوف وقلق على أطفالها، ففكرت فى الهجرة، وجاءت إلى روما بمساعدة أقارب زوجها الذين يعيشون فيها منذ سنوات، وعملت فى البداية عاملة توصيل طلبات فى مطعم بيتزا، ثم عاملة فى فرن مخبوزات يملكه لبنانى، وفى هذا المكان تعرفت على زبون يعمل صيدليًا، وعندما علم أنها هى الأخرى درست الصيدلة وعد بمساعدتها للعمل فى صيدلية، لأنه بلد سياحى وأماكن البيع والشراء ترحب بمن يتحدثون العربية من أجل السياح العرب، خاصة الصيدليات، وصدق فى وعده وساعدها فى الالتحاق بالعمل فى هذه الصيدلية التى قابلتها فيها، وأضافت أنها توجد فى روما منذ ثلاث سنوات، ولكنها تشتاق كثيرًا لبلدها ولأهلها، وما كانت تريد الغربة ولم تخطر على بالها يومًا وكذلك زوجها الشهيد، لكنها اختارتها مجبرة لتنجو بحياة أولادها، وأضافت أنها دائمًا تحدث أولادها عن القدس وفلسطين، وتعلق صورة بلدها فى كل أنحاء المنزل، لأنها لا تريدهم أن يكبروا منفصلين عن وطنهم، خاصة أنها لا تعلم متى وكيف العودة، كما أنها تحكى لهم عن والدهم، وأنه شهيد، وحى فى السماء ويراقبهم منها، ومن يفعل خطأ يغضب عليه، كما أنها تجعلهم يواظبون على الصلاة والصيام وقراءة القرآن، كما كان أبوهم يفعل، لأنها تخشى عليهم أيضًا من تحرر المجتمع الإيطالى، ومن نسيانهم دينهم، وقالت فى وجع شديد لا أنساه أخاف عليهم هنا وهناك فى روما وفلسطين، ولكنه المكتوب لا مفر.