رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الرجل الذى أكله الورق» محاكمة «عادلة» لـ«عالم غيرعادل»

محكمة
محكمة

«الرجل الذى أكله الورق» هو أحد عرضين مثّلا مصر فى المسابقة الرسمية بالمهرجان التجريبى للمسرح، وحصل من خلال هذه المشاركة على شهادة تقدير من لجنة التحكيم.

قُدم العرض على خشبة مركز الهناجر للفنون، وكانت هذه المرة الثالثة التى أشاهده فيها لفرقة «جروتسك»، من تأليف أوجستين كوزانى، وإعداد وإخراج محمد الحضرى.

أحداث العرض مستوحاة من قصة «تاجر البندقية» لشكسبير، ويبدأ التجريب فيه من النص، بإقامة «كوزانى» علاقة جدلية مع النص «الشكسبيرى»، ليثبت أن الحياة ليست عادلة دائمًا، كما يدعى نص «شكسبير». 

تدور أحداث المسرحية حول محاكمة «إلياس بيلوبر»، كاتب الحسابات، الذى رغم عمله الشاق، لا يستطيع الوفاء بالتزامات الحياة، وحين يمرض يلجأ إلى الاقتراض من «شايلوك»، المرابى الذى يشترط اقتطاع رطل من لحمه إذا عجز عن سداد الدين.

يحاول الدفاع دفع تنفيذ شرط «شايلوك» القاسى، فيذكرهم بأنه وفقًا للقانون، عليهم أن يقتطعوا هذا الرطل دون إراقة نقطة دم واحدة، وإلا التزم «شايلوك»، وفقًا للقانون الإنجليزى، بالتنازل عن ثُلث ممتلكاته لـ«بيلوبر»، لكنه يفاجأ بفساد تلك الحجة، حين يثبت الطبيب أن جسد «بيلوبر» خالٍ من الدم.

وتضافرت جماليات العرض بشكل واضح، بدءًا من ديكور محمد سباعى، وأزياء هناء الجندى، وإضاءة محمود الحسينى، إلى جانب الأقنعة لبسنت حسن، فضلًا عن أداء الممثلين: عمر فتحى ويسرا يسرى وماهيتاب أحمد، فى تحقيق رؤية المخرج، الذى طمح فى تصوير عالم غرائبى مجازى، يقع فى منطقة تتسم بجماليات القبح، وفى منطقة من الواقعية السحرية.

ووقع على «على الكيلانى» «بيلوبر» وعبدالرحمن الدمسيسى تحديدًا عبء كبير، لكونهما الشخصيتين الوحيدتين اللتين بدتا من لحم ودم وسط سيرك منصوب من البهلوانات والدمى.

الصورة غير الواقعية التى شكلها المخرج عبر الأداء وسينوغرافيا العرض.. منصة القاضى.. شكل القفص.. الملابس والمكياج والأقنعة.. جميعها كانت تدفعنا لئلا نحصر العرض فى تفسير واقعى محدود، فالمحكمة ليست هى المحكمة، ولا القاضى هو القاضى، ولكنه عالمنا القاسى المفتقد للعدالة.

نرى منصة القاضى وقد صنعت من أكوام من الملابس والأقمشة المهترئة، والكناسين يزيحون أكوام التراب ليهيئوا قاعة المحكمة ويتساءلوا: لماذا لا تمسك إلهة العدالة العمياء بمقشة بدلًا من السيف؟

يجهزون القاعة لاستقبال المؤدين والجمهور، حيث ستصير المحاكمة ذاتها عرضًا مسرحيًا يلعبه القاضى والمحامون والمحلفون والمدعى والمدعى عليه والجمهور.. والعرض الهزلى يتطلع الجمهور لمشاهدته ويحقق أعلى نسب المشاهدة، كلما كانت الجريمة قاسية ودموية.. فيقول الأب لطفلته فى مستهل المسرحية: «هذا أفضل موقع يمكننا مشاهدة كل شىء منه»، وحين تسأله الطفلة: «هل القضية مسلية يا أبى؟»، يجيبها بقوله: «قضية غير مشوقة.. إنها مجرد قضية رجل مدين امتنع عن تسديد المديونية».

إن عالمنا الذى يحولنا إلى صور مستنسخة فى الشكل والسلوك والأدوار، ويطحن الطبقات الفقيرة والمتوسطة لصالح أصحاب رءوس الأموال والمصالح والتجار والمرابين، حيث تتغذى أرصدتهم على لحمنا ودمائنا، هذا العالم الذى تشكله الصور وتتابعها دون أن نميز مصدرها وزاويتها ومدى صدقها.. هو عالم غير عادل على الإطلاق.