رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عينته الكنيسة شفيعا للصحفيين.. من هو القديس ماكسمليان كولبه الفرنسيسكاني؟

الكنيسة
الكنيسة

يحيي الأقباط الكاثوليك اليوم، ذكرى رحيل القديس ماكسمليان كولبه الفرنسيسكاني، الكاهن، وبهذه المناسبة قال الأب وليم عبد المسيح سعيد الفرنسيسكاني، في نشرة تعريفية أطلقها على إثر الاحتفالات أنه وُلِدَ " ماكسمليان ماريا كولبه" في 7 يناير 1894م ببولندا، التحق بالمدرسة الإكليريكية في عام 1907 ولبس ثوب الرهبنة الفرنسيسكانية عام 1910 م، ثم رُسِم كاهناً في روما في يوم 28 إبريل عام 1918م، بعدها عاد إلى بولندا بعد إنتهاء دراسته عام 1919م، بعدها قضى عام 1920م كاملاً في إحدى المستشفيات نظراً لتدهور صحته. 

بدأ نشاطه الحقيقي عام 1922 عندما أصدر صحيفة "فارس النقيّة" الشهيرة ويقصِد بالنقيّة العذراء مريم التي كانت تمثل له الإرشاد والحنان وفي عام 1927م، أنشأ "مدينة النقيّة" وهي عبارة عن مستشفى ومكان للتعليم المسيحي، يقع مقرّها بالقرب من (فرسوڤيا) في پولندا.

سارت حياة الأب مكسمليان على هذا النحو الهادئ حتى يوم 17 فبراير 1941م، عندما توقفت سيارة سوداء أمام باب "مدينة النقيّة" فلمحها أحد المقيمين في المدينة وعرف بالطبع أنها سيارة البوليس السِرّي النازي حيث كانت پولندا في تلك الأيام تحت الإحتلال الألماني النازي، فتم إبلاغ الأب مكسمليان بالأمر فاضطرب في البداية لكنه إستجمع شجاعته وقال: "يحسُن بي أن اذهب إليها، أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها!". خرج الأب مكسمليان لملاقاة القادمين وبادرهم بالسلام الرهباني: "السلام لكم من يسوع المسيح". عندها صاح به أحدهم: "أأنت ماكسمليان كولبه؟". 

فأجابه: "نعم أنا هو". فدفعه الجندي قائلاً: "إذاً تعالَ معنا". وأخذوا معه أربعة من الكهنة، لم يبقى منهم على قيد الحياة بعد فترة الإعتقال سوى إثنين، كان ذلك من أجل العداء الذي يبرزه النازي نحو اليهود، والذي لا يعادله في المقدار سوى كراهية أخرى للإكليروس والمكرسين المسيحيين، لذلك يوجد عدد لا يمكن حصره من شهداء الكنيسة في معتقلات النازي. هنا ألقى الأب مكسمليان النظرة الأخيرة على "مدينة النقية" قبل ركوب السيارة. رأى إخوته الرهبان القائمين عليها معه والدموع تملأ عيونهم فباركهم من صميم الفؤاد وهو على يقين من أنها آخر مرة يلتقي بهم بالوجه. وترك مسئولية رعاية المدينة لشفيعته العذراء مريم.

إعتُقل مع إخوته الرهبان الأربعة في البداية بسجن (بارياك)، واُلْقيَ الأب ماكسمليان كولبه في الحجرة 103 فلم يطل به الوقت حتى إكتسب قلوب السُجناء حيث كان يستمع لشكواهم ويزيل عنهم الكثير من التعب بإعطاء الأمل في رحمة الله وتوصيل تعزياته للمسحوقين بالتعب والإضطهاد والمخاوف، كذلك قام بأخذ اعترافاتهم لإزاحة الهموم الروحية عن قلوبهم وتمكينهم من التنعُم بالسلام الداخلي وراحة القلب، كما عوّدهم الصلاة الجماعية والشخصية. كان ذلك قبل بداية عرض المعتقلين الجُدد على قيادة المُعتقَل.

حَلّ أوان العَرض والتفتيش، حينها وقعت عينا أحد الضباط على الأب ماكسمليان بثوبه الرهباني فاغتاظ وأمسك بالمسبحة المُعَلّقة في زنّاره وانتزعها بعنف صائحاً: "أيها الكاهن المعتوه، أمازِلت تؤمن بهذا؟". وأشار إلى الصليب المُعَلّق في نهاية المسبحة. فأجاب الأب ماكسمليان بهدوء وثِقة: "نعم أؤمن". فصفعه الضابط بحِدّة ثم جاد عليه بصفعة أخرى، فبدأ الأب ماكسمليان ينزف من فمه.

وحينما نرى الليلة الأخيرة في حياة الأب مكسمليان كولبه، حيث جاءت عشية عيد إنتقال العذراء مريم بالنفس والجسد يوم 14 أغسطس 1941 ولم يبقى حول الأب مكسمليان سوى ثلاثة من الأحياء، وهو الوحيد بينهم الذي لم يفقد وعيه بعد. لكنه لم يعد قادراً على الوقوف أو الركوع، لذلك طفق يصلّي جالساً، لقد سرّح قطيعه إلى السماء الواحد تلو الآخر، والثلاثة الباقون فاقدي الوعي وفي طريقهم للمثول أمام الله. لقد أنهى الراعي عمله واستحق أن يستريح. يحكي لنا بورجويك عن هذه الساعة قائلاً: ((كان الأب مكسمليان يصلّي عندما دخل عليه الجند ليجهِزوا عليه بحقنة (ليثيل) تعجِّل بموته، فلما رأى الحقنة مَدّ ذراعه مُتشجِّعاً عندها هربت أنا إلى خارج الزنزانة حتى لا أشاهد هذه القسوة والبشاعة. كيف يسمحون لأنفسهم بقتل رجلاً كهذا؟.

وعندما عاد بورجويك ليرى هل مات الأب مكسمليان أم لا، وجده منحني الرأس قليلاً مستنِد إلى الحائط، وعيناه منفتحتان جميلتان، تنظران إلى نقطة معينة من الزنزانة وكأنه كان يرى رؤيا واستطرد بورجويك: "لن أنسى ما حييت هذا المشهَد". 

بكى جميع المعتقلين وأولهم "فرانسيس جاجونيكزك" الذي افتداه الأب مكسمليان عند سماعهم نبأ وفاته وعبثاً حاولوا الحِفاظ على جسده الطاهر، فقد تم إحراقه كغيره من الأجساد في الأفران الكيميائية التي لا ينقطع دخانها ليل نهار.

مات الأب مكسمليان في عشية عيد إنتقال مريم العذراء التي كانت مَهْوَىَ فؤاده، والتي أطلق أسمها على الصحيفة التي أصدرها والمدينة التي أنشأها للخدمات ... قضى فترة الصوم بإرادته في إنقطاعاً لا نهاية له فلم يأخذ كِسْرَة خبز أو قطرة ماء ... فنقلته هي إلى أجواء إبنها السماوية.

جاءت لتأخذه في يوم من أبهى أيامها تُرى، هل كانت تحمل بين يديها آنذاك الإكليلين الذين أرته إياهما في صباه، الإكليل البيض والأحمر؟

أعلنه البابا "بولس السادس" طوباوياً عام 1971م، وأعلنه البابا "يوحنا بولس الثاني" قديساً عام 1982م، ومازالت زنزانته بأرض معتقل (أوشفيتز) ببولندا مزاراً أساسياً للحج الروحي، وهو شفيع مدمني المخدرات، والمسجونين، العائلات، الصحفيين.