رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جسور الثقة والثقافة المؤسسية

يتشارك الوطن العربي في الكثير من الخصائص الخاصة والعامة والسمات الشخصية والاجتماعية، والبيئة المؤسسية والأنماط الإدارية. وتتعارض الذاتية والأنانية مع روح الفريق الواحد والعمل الجماعي في مهارة القيادة وفن الإدارة.

الموروث القياديوالإداري التقليدي ما زال يعتبر أن جميع الشئون والأعمال في المنشأة تعد شئوناً خاصة كشئون الأسرة، وأن الممارسة الإجرائية ما زالت تضفي طابع السرية الشديدة والتكتم والتعتيم على مختلف الإجراءات، في حين أن السرية أضحت تتجه نحو الخرافة، وأن معيار الشفافية معيار محل اتفاق لقياس مدى إتاحة المعلومات وبيان الإجراءات التي تعكس مستوى الأداء ومشروعية آلياته، ومنظمة الشفافية الدولية تقدم تقريرها السنوي لمدركات الفساد لمختلف دول العالم، والذي تتفاوت فيه الدول بمقدار سلامة برامج ومشروعات التنمية من الفساد فيها.

غياب العمل المؤسسي يعكسه عدم تناسق وانسجام أعضاء البيئة الداخلية، وزيادة الفجوة بين العاملين في الكيانات والمنشآت المختلفة، وبينهم وبين البيئة الخارجية المحيطة، إذ في الأعم الأغلب لم تستطع ثقافة المنشأة بناء جسور ثقة بين العاملين من جهة، وبين الاستجابة للتطورات والتغيرات الخارجية السريعة والمتلاحقة، والتفاعل معها من جهة أخرى، مما أدى إلى الركود وضعف الإنتاجية، وعدم مواكبة التطور واتباع مسار محدد للتصحيح والتحديث ومعالجة المشكلات ومواجهة التحديات. وفي هذا السياق يبدو أن مناقشة تنفيذ الاستراتيجيات والخطط والتعديل عليها يتم أثناء تناول وجبة الإفطار وفي اللقاءات الهامشية وبين الشللية والمجموعات المقربة.

يعتمد العمل المؤسسي في إنجاز الأعمال وتنفيذ المهام على قدرة القيادة على المواءمة الفعلية بين أهداف المنشأة وحاجات ومتطلبات الأفراد، وبمقدار هذا التوازن المعتمد على الفهم الموضوعي لكل المتغيرات وبالمزج التكاملي بينها يقاس المستوى الفعلي لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات، الذي تعبر عنه الدلالة الإحصائية للمنجزات ذات الضبابية في البيئات الإدارية العربية، والذي بدوره عمق الضعف العام في الهياكل الاقتصادية والكيانات الإدارية وجعل تدبير وإنفاق الموارد المالية محل شكك ومثار ريبة ومنطقة تساؤلات واسعة قد تصعب الإجابة عنها.

تظل الأهداف الواضحة والإنجازات الملموسة سمة من سمات التفكير الإبداعي الذي يُمكن القادة من المبادأة والمبادرة لتحقيق السيطرة والتفاعل مع المتغيرات والتقليل من آثارها السلبية، من خلال التنبؤ الذي يساعد على التهيئة لتقبل مؤشرات التفاعل المسبقة مع المتغيرات وترجيح احتمال حدوثها، والذي بدوره يساهم في تعميم السيناريوهات البديلة للتعامل مع مصادر التحديات والمخاطر العلنية والمستترة، وتهيئة الموارد المادية والبشرية والمعلوماتية اللازمة لتنفيذها وتقييمها قبل توظيفها.

التعاون والتكامل بين القائد والأتباع لنهج السياسات التي تهدف إلى تحسين جوهر القيادة بممارسة الإقناع وتوحيد الجهود وحفزها لبلوغ الأهداف بدرجة عالية من الكفاءة، وبرفع الروح المعنوية لأعضاء المنظومة من خلال ما توفره لهم من رعاية واهتمام واستجابة لحاجاتهم المادية والمعنوية؛ ليتم إشباعها بوسائل مشروعة وظروف عمل مناسبة. لبلوغ درجة مناسبة من الإشباع لجميع الأطراف، بحيث تتحقق في النهاية الأهداف العامة والخاصة بصورة متوازنة بعيدًا عن مسالك الفساد وسبل الاحتيال.

تتزايد أهمية العمل المؤسسي تبعًا لتحضر المجتمع ونمو وتطور مؤسساته العامة والخاصة، ودخول التقنية كمتغير فعال في رفع الكفاءة الإنتاجية والإنجاز وكفاءة الأداء، وسيادة منهج التقييم التتابعي لمسار العمل وخطوات الإنجاز بشكل دوري ومستمر بعيدًا عن الارتجالية والعشوائية.

يتيح مبدأ صياغة الاستراتيجيات تقدير الفرص والبدائل، والتنبؤ بالمخاطر والتحديات على درجات تصاعدية محسوبة في نسب النمو والتطور والتشارك والتعاون والتكامل على سلم الاستقرار الكلي للمنشأة والعمل والعاملين بعيدًا عن الاجتهادات الفردية والنزعات الأحادية التي تُبدد الجهود البشرية والموارد المادية.

التفاعل بين الأفراد وتعميق الأخوة، والشورى، والتشارك في تحقيق الأهداف، والعطاء المتبادل، والقدرة على التجمع الإيجابي، وتحقيق التوازن بين الروح الفردية والروح الجماعية مهمة أساسية للتنشئة المتوازنة التي تنمي الشخصية السوية التي تحمل المبادأة الفردية والروح الجماعية، بعيدًا عن التسلط والانهزامية.

صياغة المعايير وبناء السياسات وقواعد الإجراءات بموضوعية، وتطويرها بمنهجية علمية سمة مؤسسية تؤسس للثبات والرسوخ والمشروعية التي يحتكم إليها كل الأطراف والهيئات في حجية ورشد القرارات الضامنة للاستمرارية والنمو والتطور والتنمية المستدامة، وتعميم النفع وتوسيع دائرة الإنجاز في إطار المبادئ والقيم التي تُشكل في مضمونها قيمة مضافة تتفرد بها المؤسسية عن الفردية التي تُعد الأكثر شيوعًا في المجتمعات النامية عامة والعربية خاصة.

استشعار معوقات التنمية والتهديدات والمخاطر والتحديات، وصياغة خطط مواجهتها قضايا حرجة غالبًا ما يخفق فيها الجهد الفردي، ويتميز بها العمل المؤسسي الذي يستشرف من منظور جماعي تلتقي فيه الرؤى الجماعية بملامسة كل مهددات التنمية الاقتصادية والإدارية والاجتماعية، والتعاون لتفاديها وخفض تكاليف مواجهتها والآثار الناجمة عنها. وتجاوز التحديات وتخطي المشكلات بما يحاكيها من أدوات فنية وتقنية ومهارات قيادية ومنهجيات إدارية يمتلك زمام مبادرتها العمل المؤسسي، برفع مستوى أداء الأفراد والكفاءة الإنتاجية بحسن الاختيار والتعيين والتدريب والتثقيف والمهنية والاحترافية المستدامة، ومعالجة محدودية الموارد المالية والمادية بالتنوع والاتساع.