رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطريق إلى 30 يونيو «2»

فى حساب إنجازات ثورة ٣٠ يونيو يجب ألا ننظر فقط إلى الإنجازات الصلبة من تعمير وصناعة وزراعة.. إلخ، ولكن يجب أن ننظر، أيضًا، إلى الإنجازات المعنوية أو الحضارية أو الفكرية والسياسية، التى يمكن تلخيصها تحت عنوان عريض هو الحفاظ على وحدة الأمة المصرية، والقضاء على الأخطار التى كانت تتهددها، والتى تزايدت فى سنوات ما قبل يونيو بفعل شيخوخة الدولة من جهة، وتصاعد نفوذ قوى التطرف من جهة، وتصاعد مخططات التدخل الأجنبى من جهة ثالثة.. ولعل من أهم ملفات ٣٠ يونيو التى أنجزت فيها ملف «الوحدة الوطنية» أو العلاقة بين المصريين بعضهم البعض مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم، والحقيقة أننى عاصرت منذ التسعينيات أحداثًا وحوادث كانت كلها تشير إلى ارتفاع معدلات الفتنة الطائفية، إلى حد الخطر، وإلى تكرار حوادث الاشتباك بين المصريين لأسباب دينية بشكل دورى، يوحى بأن هناك أمرًا خاطئًا.. وكان معظم الحوادث منذ حادث الخانكة ١٩٧٢ حتى آخر الحوادث فى بداية ٢٠١١ يدور حول أزمات بناء الكنائس وتعنت بعض الجهات فى منح التصاريح اللازمة.. ولجوء بعض المصريين الأقباط لاستخدام مبانٍ مرخصة كجمعيات خيرية لإقامة الصلاة، وهجوم بعض المتطرفين على هذه المقار وما يصحب ذلك من أحداث مؤسفة بين هجوم ودفاع.. وكان سير الحوادث فى مرات كثيرة يشير إلى أن ثمة تطرفًا من بعض صغار المسئولين يشجع المتطرفين على المضى فى غلوائهم.. ثم تصاعدت الحوادث فى سنوات ما قبل يناير لتأخذ شكل اعتداءات مسلحة على الكنائس فى أعياد الميلاد والقيامة.. إلى غير ذلك من أحداث مؤسفة يحسب لثورة يونيو أنها قضت عليها تمامًا.. حيث تم حل مشكلة بناء الكنائس من المنبع.. وتراجع نفوذ التطرف فى الشارع المصرى على الأقل فيما يخص هذا الملف، وخضع الجميع لسلطة القانون منذ أن خرج المصريون جميعًا يدًا بيد فى ٣٠ يونيو حفاظًا على وطن كان يُراد اختطافه وإخفاء ملامحه وسحق تاريخه.. ولم يكن غريبًا أن يلجأ الإرهابيون الإخوان لحرق ثمانين كنيسة أو يزيد عقابًا للمصريين على وحدتهم وسعيًا لإشعال نيران الفتنة، ظنًا أن الشعب ما زال يشترى بضاعة الإخوان القديمة.. وقد علق البابا تواضروس على تلك الأحداث بمقولة صارت مثلًا «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن»، وتصدت الدولة لإعادة الكنائس إلى أصلها فى شهور قليلة.. والحق أن إنجاز ثورة يونيو فى ملف وحدة المصريين جميعًا لم يتوقف على موضوع علاقة المصريين بالمسيحيين.. فقد عاصرت بحكم عملى عشرات القضايا كان يعاقب فيها مسلمون على انتمائهم لمذاهب معينة، أو اتهامهم بأفكار معينة بعقوبات قاسية تصل للحبس سنوات طويلة.. وكان من إنجازات «يونيو» أنها أغلقت هذا الملف ما دام الجميع يلتزمون بأحكام القانون والدستور، وصرح رئيس الدولة أكثر من مرة بتصريحات تفيد بكفالة الدولة لحرية الرأى والاعتقاد.. وفى هذا الملف، أيضًا، لا يمكن إغفال المصالحة التاريخية التى قام بها الرئيس مع النوبيين المصريين الذين عانوا ظلمًا تاريخيًا منذ بناء خزان أسوان ١٩١٢.. ثم السد العالى.. ولم يكن لهذا سبب سوى صدفة وجود بلادهم فى أراضٍ تتعارض مع مشروعات السدود والخزانات.. وكان سر الإحساس بالظلم أن الدولة تباطأت فى كل العصور عن تعويضهم عما لحق بهم من ضرر، وهو الأمر الذى قام به الرئيس السيسى الذى عوضهم ماليًا ومنحهم أراضى بديلة فى وادى كركر، وقام بأول زيارة يقوم بها حاكم مصرى للنوبة منذ عقود طويلة.. يدفعه لهذا رغبته فى رفع الظلم أولًا.. ووعيه بمخططات تقسيم مصر التى تطبخ على نار هادئة منذ سنوات طويلة ثانيًا.. وهى مخططات عطلتها ثورة ٣٠ يونيو إن لم تكن أفشلتها بالكامل، وإن كان أصحابها يطلون برأسهم من حين لآخر كما نرى جميعًا.. ولهذا حديث قادم بإذن الله.