رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قوة مصر الناعمة غيّرت جلدها

الكاتب محمد التابعى أشار فى مذكراته إلى أن صديقه الفرنسى همس له فى أذنه قائلًا: "إن القرار الذى أخفاه الإنجليز في حالة انتصار الألمان هو رغبتهم فى خروج أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب من مصر بالرضا أو بالإكراه"، وهو الأمر الذي فسره البعض بأن الإنجليز عقدوا النية لاختطاف أم كلثوم وعبدالوهاب تحسبًا من الغناء لصالح الألمان.
تعود أصل الحكاية إلى فبراير 1942 وإعلان المصريين بغضهم للإنجليز وتأييدهم للألمان أثناء اشتعال نيران الحرب العالمية الثانية، حيث حقق القائد الألمانى روميل انتصارًا عظيمًا سيطر من خلاله على مدينة بنغازي الليبية، وتوالت الانتصارات زاحفًا إلى مصر، هنا خرجت مظاهرات فى القاهرة هتف الثائرون فيها "إلى الأمام يا روميل". 
وقع تأييد المصريين للألمان على الإنجليز كالصاعقة، وسولت لهم أنفسهم أنه فى حالة انسحابهم من مصر أن يقوموا بخطف أم كلثوم وعبدالوهاب خوفًا من استغلالهما فى الدعاية لألمانيا، خاصة أن أغانيهما كانت مؤثرة على الشعوب العربية قبل المصريين، وفى هذا الصدد كتبت مجلة المجلة: "كان يكفى أن يعلن راديو القاهرة فى حالة احتلال الألمان لها أن أم كلثوم أو عبدالوهاب سوف يغنى هذا المساء لكى ينصت العالم العربي كله إلى إذاعة راديو القاهرة الذى يسيطر عليه الألمان، وهذا هو الخطر فى حرب الدعاية".. لكن لم يمهل القدر "روميل" من الوصول إلى القاهرة وانسحب من منطقة العالمين لنقص فى العتاد والجيش، ولم تغنِ أم كلثوم أو عبدالوهاب للألمان، أو كما قال محمد التابعي «من كان يضمن أن أم كلثوم وعبدالوهاب سوف يوافقان على الغناء؟».. هذه الرواية المدهشة تؤكد على أهمية الفن والغناء إحدى أذرع القوة الناعمة في السيطرة والهيمنة على عقول البشر أو قد تصبح هذه القوة أعلى من صوت البارود أحيانًا كثيرة، وإلى هذا الحد كان يخشى الإنجليز من استخدامها الألمان في الدعاية، ومن ثم يمكنهم السيطرة على وجدان الشعب المصرى فى حالة ما أن يشدو عبدالوهاب وأم كلثوم بكلمات مؤيدة للألمان.
إن قوة مصر الناعمة الممتدة عبر التاريخ هى مَن شكلت وجدان وفكر وعقل المصريين بل الأمة العربية أجمع باعتراف الجميع. مع ظهورهذا المصطلح فى مطلع التسعينيات من القرن الماضي كما يعرفه عالم السياسة الأمريكى "جوزيف ناي" مساعد وزير الدفاع فى حكومة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، أن القوة الناعمة تعمل جنبًا إلى جنب القوة الصلبة "السكرية" لتقوية المصالح، وهذا المصطلح يستخدم للتأثير على الرأى العام... هكذا يكون فعل السحر للقوة الناعمة التى تستمد قوتها من المحتوى الفنى سواء كان مؤلفًا أدبيًا أو نصًا مسرحيًا أو القصة السينمائية أو اللحن والكلمات التى يشدو بها مطرب أو مغنى.       
مصر لما لها من تراث عظيم من القوة الناعمة تتباهى بين الأمم دائمًا متفظة بالصدارة، نعم نحن دائمًا فى مقدمة صفوف القوة الناعمة، بما يحمله المبدعون على عاتقهم من مسئولية كبيرة كى تحتفظ مصر بمكانتها العظيمة، يكفى أن نذكر بعض مواقف سيدة الغناء العربى التى تستحق قائد قوات مصر الناعمة عبر التاريخ بصولاتها وجولاتها فى الغناء من أجل مصر، وتاريخ يشهد لها بما قدمته فى الوطن العربى والغربى وإفريقيا أيضًا، وحين غابت مصر عن إفريقيا لم يتبقَ لنا من ذكريات لدى الشعوب الإفريقية سوى صوت الزعيم عبدالناصرالملهم لحركات التحرر، وطرب أم كلثوم الملهم، ودروس مشايخ الأزهر.
يبقى أن نقول لكل مطرب أو فنان يقدم حفلات خارج مصر أن يستحضر مواقف أم كلثوم وعبدالحليم حافظ كيف كانت صورة مصر حاضرة أمامها، كيف حملا هذا التراث والإرث المصري معبرين عنه في وقفاتهما على مسارح عربية، على كل فنان أن يدرك قيمة وعظمة هذا البلد، لسنا ضد أن يكون أى فنان أو فنانة سفيرًا لمصر معبرًا عن هذا التراث الذى لا ينضب أبدًا، ولن نذكر مواقف أو هفوات صدرت من البعض أثناء إحيائهم حفلات خارج مصر، سنترفع عن صغائر الأمور ونذكرهم بما هم أهم كيف تكون مصريًا خارج مصر وكيف تحافظ على هذا البلد حيثما كنت أيها الفنان المصرى؟. ولا غضاضة من أن تحتفل دولة شقيقة بالفن المصرى، فهذا تكريم لقوة مصر الناعمة فى الطرب الأصيل. فقوة مصر الناعمة وإن غيرت جلدها ستظل قوية شامخة البنيان تؤثر ولا تتأثر إلا بما يناسب ذوقها الرفيع.