رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من يرحم يُرحم

يقول خبراء الاقتصاد في تفسيرهم لموجة الغلاء التي تشهدها الأسواق منذ شهور إن للأمر أسبابًا- يراها بعضهم منطقية- كما يُقرون أن له تداعيات، لكنهم يؤكدون أنها تداعيات يعاني منها الجميع بما فيهم الأغنياء أنفسهم بحيث لا تقتصر المعاناة على الفقراء وحدهم، ويرون أن الأزمة كشفت عن نفسها بعدد من الأوجه تمثلت في عجز الموازنة، و تراجع الاحتياطي النقدي من العملة الصعبة، فانتهى الأمر إلى تدني قيمة الجنيه وتفاقم التضخم، وبالطبع تمثل كل هذا في ركود اقتصادي.
ويؤكد أهل السياسة أن تلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة ليست أمرًا محليًا ولكنها صارت تمثل أزمة عالمية تعاني منها معظم اقتصاديات العالم– النامي والمتقدم– فدولة مثل بريطانيا مثلًا يعيش اقتصادها حالة من التضخم التي انتهت بتراجع القوة الشرائية للمواطن البريطاني في حين يُرجع أكثرهم أسباب الأزمة إلى جائحة كورونا، ثم تلك الحرب المحتدمة في شبه جزيرة القرم . وأزمتنا فيما يراها أهل السياسة ليست مرتبطة بمشاريع تنموية تبنتها الحكومة، إذ يؤكدون أن الدولة رغم كل الضغوط الاقتصادية استمرت– بل زادت– في دعم محدودي الدخل لمواجهة أعباء الأزمة الاقتصادية.
ويفسر أهل التفسير العقلي للأشياء الموقف بأن تراجع موارد الدولة من النقد الأجنبي أثّر بالسلب على توفير مستلزمات الإنتاج. وأن تفاقم الأزمة يرجع إلى ما قام به بعض الجشعين من إخفاء كميات كبيرة من السلع بغرض الاحتكار ومن ثم التحكم في أسعار تلك السلع والمضاربة عليها لتحقيق مكاسب شخصية ضيقة. في حين أنهم يؤكدون أننا كنا في حاجة ماسة إلى تلك المشاريع القومية المعنية بالبنية التحتية؛ لأنها كانت ضرورة لم نكن نمتلك رفاهية تجاهلها بأي حال من الأحوال.
ومجتمعيًا ينصح علماء الاجتماع بضرورة مضاعفة جهود المنظمات الأهلية والمؤسسات الخيرية في دعم الفقراء والمعوزين. ويطالبون بمزيد من الحسم في مواجهة المتاجرين بالأزمة الذين يزيدون أرصدتهم على حساب بني وطنهم بزيادة الأسعار أو تسعيرهم الشخصي للسلع والخدمات بمبدأ انهب قبل أن تُنهب، واستغل هذا الزبون فغيرك سيفعل ذات الأمر معه بل ومعك حين تحتاج إليه، ويحذرون بالتالي من جنون الأسعار وما يستتبعه من زيادة الركود وهو ما بدأنا نتابع نُذره.
في حين لم يترك علماء الدين الفرصة لطرح رؤيتهم في الأمر إذ يرون في التكافل الاجتماعي وأداء الواجبات المفروضة على الأغنياء تجاه الفقراء– كالصدقة والزكاة في الإسلام والعشور في المسيحية– حلًا ناجعًا يحفظ السلم المجتمعي ويعَد مخرجًا منطقيًا للأزمة إلى حين يحدث التعافي التام وينتهي الأمر بخروج النظام الاقتصادي من أزمته. ويذكّرنا علماء الإسلام بأحاديث نبوية للرسول محمد  صلى الله عليه وسلم كقوله: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي)، وقوله: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا أهل الأرض يرحمكم من في السماء)، وقوله: (لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة).
تلك بإيجاز– أرجو ألا يكون مخلًا–  رؤى مختلفة لأزمة اقتصادية عالمية نعم، لكن وقعها على المواطن في مصر صعب جدًا وأرى أن الخروج من هذا المأزق يأتي بصياغة رؤية متكاملة وليس رؤى فردية يتبناها أفراد، ولا هو برؤى حزبية ضيقة تنظر للأمر من واقع أيديولوجيات ومصالح حزبية، كما أنه لا ينبغي للحلول أن تأتي من توجهات فكرية تتبناها فئات بعينها وفقًا لمصالحها المباشرة.
ينبغي هنا أن تكون المصلحة العامة هي الفيصل وأن تكون الرؤية الشاملة هي الحكم وأن يكون التفكير الجمعي لأهل الاختصاص هو الحل، كما يتحتم أن تكون تبعات الحل وتداعيات الأزمة أمرًا واقعًا يتحمله الجميع وليس فئة أو طبقة أو طائفة دون غيرها. وهذا ما نرى أن الدولة المصرية قد فطنت إليه فنظمت مؤتمرًا اقتصاديًا في أكتوبر من العام الماضي، كما جعلته محورا رئيسيا في الحوار الوطني الدائر الآن بين القوى السياسية الوطنية.
وقد أكد السيد الرئيس في كلمة سيادته مطلع مارس الماضي، عقب افتتاح عدد من المشروعات بمحافظة المنيا، أنه يضع مصلحة المواطن المصري نصب عينيه دائمًا، ومن ثم فإن جودة حياة المواطن هي الهدف المُحدد الذي لا تحيد عنه الدولة مطلقًا، ووجّه سيادته يومها باتخاذ حزمة من الإجراءات بهدف تحسين دخول العاملين بالجهاز الإداري للدولة. 
ثم عاد واتخذ في منتصف مايو 22 قرارًا في مختلف القطاعات والمجالات الاقتصادية استهدفت تحقيق نقلة نوعية في خفض تكلفة تأسيس الشركات، والحد من القيود المفروضة على التأسيس، فضلًا على تسهيل تملك الأراضي، والتوسع في إصدار الرخصة الذهبية، وتسهيل استيراد مستلزمات الإنتاج، وتحفيز الاستثمار المحلي والأجنبي بتخفيف الأعباء المالية والضريبية، إضافة إلى تقديم حزمة من الحوافز والتسهيلات في قطاعات الزراعة، والصناعة، والطاقة. 
كل تلك خطوات كان لابد منها لتحسين حالة الاقتصاد الوطني، ويكللها بالفعل جهود الأفراد المبذولة في هذا الشأن، نعم الأفراد أذكرهم وأكررها، فلا مخرج ممكن من الأزمة دون جهود مخلصة يبذلها كل فرد بالتراحم يمارسه بنفسه- سواء بوازع ديني أو حتى إنساني- بأن يدعو غيره بالتوقف عن ممارسة عادات شرائية لا تتناسب والوضع الحالي كالمبالغة في اقتناء السلع وتخزينها، والمبادرة بالإبلاغ عن محتكري السلع، وضغط المصروفات وترشيد الاستهلاك بتطبيق سياسة الاستغناء عن كل ما لا يفيد ساعتها يمكن أن نطمئن إلى أن الخروج من الأزمة آتٍ، فالله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.