رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حين رأى نفسه «الأعظم»

سارت الحياة بحسن الطوسى أو «نظام الملك» فأصبح وزيرًا ناجحًا فى بلاط بنى سلجوق، وذاب «عمر الخيام» فى متع الحياة وأطايبها، وتفجرت بداخله موهبة شعرية فذة خلدت ذكره، أما العضو الثالث فى المجموعة «الحسن الصباح» فقد كان أمره عجبًا بين الأصدقاء الثلاثة. وإذا كان «نظام الملك» حدد هدفه فى الوزارة، و«الخيام» فى الشعر، فقد اختار الحسن الصباح مسارًا ثالثًا أشد إثارة وأكبر خطرًا.

«الحسن الصباح»- كما تقول كتب التاريخ- هو الحسن بن على بن محمد بن جعفر بن الحسين بن محمد بن الصباح الحميرى اليمنى، ولد فى مدينة «الرى» ببلاد فارس سنة ٤٤٧ هـ. تربى فى أسرة تؤمن بالمذهب الشيعى الاثنى عشرى، لكنه كان يعلن أمام زملائه وهو طفل يدرس مع صديقيه «نظام الملك والخيام»- كنوع من التقية- عن أنه سنى المذهب، وأنه مثلهما يتفقه على يدى واحد من أشهر علماء هذا المذهب، وهو الشيخ «موفق النيسابورى»، ولم تنف هذه المحاولة حقيقة إيمان «الصباح» بالمذهب الاثنى عشرى، وأنه ظل على قناعة به طيلة سنى طفولته، إلى أن تحول فيما بعد إلى المذهب الإسماعيلى، وكان السر فى ذلك- كما يشير المؤرخون- محنة مرض مر بها، فأخذ يقرأ فى الكتب التى تشرح هذا المذهب، وتعلم الكثير على أيدى معلمين «إسماعيليين»، حتى آمن به إيمانًا لا يهتز. وهناك رواية أخرى حول تحوله المذهبى تقول: إن «الصباح» بعد أن أكمل دراسته شاءت الظروف أن يقوم برحلة فى أنحاء إيران، فالتقى أحد مشاهير الدعاة وهو «أبوالنجم السراج»، وتعلم على يديه وتأثر به وآمن بمذهبه، والتقى بعد ذلك الداعية الفاطمى «عبدالملك بن عطاش»، فشجعه على زيارة القاهرة ولقاء الخليفة الفاطمى المستنصر بالله. وكانت الدولة الفاطمية- حينذاك- هى الترجمة السياسية لهذا المذهب والإطار المنظم الذى يجمع بين المؤمنين به، وعندما تحول «الصباح» إلى المذهب الإسماعيلى كانت هذه الدولة تمر بمحنة كبرى فى عصر الخليفة المستنصر، انتهت بسيطرة أمراء الجيوش على الخلافة: «بدر الجمالى» ثم «الأفضل الجمالى».

فى إطار شغفه بالتحليل النفسى للشخصيات التاريخية وصف المفكر الكبير عباس محمود العقاد «الحسن الصباح» بأنه شخصية مولعة بجنون السيطرة والغَلبة، وأنه كان مسوقًا من نفسه التى كانت تغلبه باستمرار وتدفعه إلى السيطرة على الآخرين، وقد غلب جنون السيطرة على ما تمتع به الرجل من دهاء. ويشهد رأى «العقاد» على حالة الحيرة التى تصيب المحللين عندما يتوقفون أمام شخصية «الصباح». فهو يصفه بأنه كان مولعًا بجنون السيطرة، فيطرق شخصيته من السطح، ويهمل أن ذلك ديدن أى شخص يتمتع بكاريزما وقدرة على التأثير فى الآخرين، وفى الوقت نفسه يتأثر الآخرون به ويتحلقون حوله. على سبيل المثال كان «نظام الملك»، أقرب أصدقاء الطفولة بالنسبة للحسن الصباح، مولعًا هو الآخر بالسيطرة والتحكم فيمن حوله، وقد بلغ به الأمر حد التحكم فى السلطان السلجوقى «ملكشاه» الذى أجلسه على كرسى الوزارة عقدين مكتملين من الزمان.

بعيدًا عن التقييم الإيجابى أو السلبى للأثر التاريخى يجد القارئ نفسه أمام شخصية استثنائية وهو يطالع سيرة «الحسن الصباح»، شخصية قيمها مؤرخ سنى شهير مثل «ابن الأثير» قائلًا: «كان الحسن بن الصباح رجلًا شهمًا، كافيًا، عالمًا بالهندسة، والحساب، والنجوم، والسحر، وغير ذلك». ووصفه فى موضع آخر بـ«الشجاعة والرأى والتجربة». معنى ذلك أننا أمام شخصية استثنائية تتمتع بقدرة عالية على التأثير والقيادة وتحريك الأتباع بالصورة التى تخدم أهدافه. إن سمة واحدة من السمات التى وصف بها «ابن الأثير» الحسن الصباح قادرة على صناعة زعيم، فما بالنا وقد اجتمعت كلها فى شخص واحد.

آمن الحسن الصباح إذن بالمذهب الإسماعيلى، وآمن أيضًا بقدراته كزعيم سياسى قادر على صناعة الفارق داخل أى نظام أو واقع يعيش فيه، وشرع- بعد أن انتهى من رحلة التكوين- يفكر فى الطريق الذى يتوجب عليه أن يسلكه. تذكر فى هذه اللحظة الصديق القديم الذى يتربع حاليًا على سرير الوزارة داخل الدولة السلجوقية. ذهب إلى «نظام الملك» يذكره بالوعد القديم الذى تعاهد عليه ثلاثتهم: الطوسى والخيام والصباح. رحب به «نظام الملك» وقدمه للسلطان «ملكشاه» الذى عينه كبيرًا للحُجّاب. والواضح أن هذه الوظيفة الجديدة لم ترض شخصية الحسن الطموحة التواقة إلى تصدر المشهد. والغالب أنه لحظتها كان يسمع ما يُكال من مديح وثناء على قدرات صديقه القديم «نظام الملك» الذى أظهر حسمًا وعزمًا وذكاءً واضحًا فى إدارة العديد من الملفات السياسية التى أهمت البلاط السلجوقى. كان الصباح يرى أنه يملك هذه القدرات وأكثر، لكنها الفرصة التى لا تُواتى. قرر أن يصنع الفرصة بنفسه، وقد جاءت حين سمع السلطان يطلب من وزيره «نظام الملك» إعداد موازنة الدولة، فاعتذر له الوزير وأمهله وقتًا يقرب من السنة حتى ينتهى منها، هنا دخل «الصباح» على الخط وأخبر «ملكشاه» أن بإمكانه تقديم الموازنة بعد ٤٠ يومًا فقط، وقد فعل ذلك وأنجز المهمة فى التوقيت الذى وعد به فأبهر السلطان، وأظهر قدرات أعلى من صديقه القديم. فى هذه اللحظة قرر «نظام الملك» التخلص منه، فأخفى بعض الأوراق المهمة الخاصة بالدولة وتقع فى عهدة «الصباح»، فغضب السلطان وعنّف «الصباح» على اختفائها وطرده.

ترك الحسن الصباح بلاط الدولة السلجوقية وأوى إلى «أصفهان»، وهناك قال مقالة خطيرة: «لو كان لى صديقان صادقان لقضيت على حكومة هذا التركى وهذا القروى». ويقصد بالتركى السلطان «ملكشاه» وبالقروى الوزير «نظام الملك». كان يرى نفسه «الأعظم». وخوفًا من مطاردات بلاط الحكم السلجوقى قرر «الحسن الصباح» الانتقال إلى مصر.