رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اختيار مصر

فى بداية العشرينيات سأل صحفى الزعيم الوطنى سعد زغلول عن رأيه فى الوحدة مع الدول العربية وقتها، فقال قولته الشهيرة «حاصل جمع الأصفار ليس سوى صفر كبير»، وكان يقصد أن على الدول العربية أن تبنى نفسها أولًا ويتحول كل منها إلى رقم صحيح ثم تتعاون فيما بينها بعد ذلك.. رغم شعبية سعد زغلول الجارفة إلا أن الشعب المصرى لم يتأثر بوجهة نظره فى مسألة التضامن العربى.. تعامل المصريون مع العرب بقلوبهم وليس بعقولهم كما أراد سعد زغلول.. مع تبلور ملامح قضية فلسطين كان المصريون أول من ساند وأول من تبرع وأول من بذل جهدًا لنصرة شعب فلسطين.. بعد صدور قرار التقسيم ذهب الجيش المصرى ليؤدى واجبه تجاه شعب عربى شقيق.. الهزيمة هى التى دفعت الضباط الأحرار للإحساس بأن هناك شيئًا خاطئًا.. أصيب اللواء محمد نجيب أول رئيس مصرى برصاصة وهو يقاتل فى فلسطين، واعتبرت إصابته دليل شجاعة وإخلاص للقضية التى يقاتل من أجلها.. وحوصر جمال عبدالناصر قائد ثورة يوليو فى الفالوجا، وتحت الحصار فكر أن التغيير فى مصر أصبح حتميًا.. أشهر شوارع حى المهندسين يحمل اسم البطل أحمد عبدالعزيز الذى استشهد وهو يقود المتطوعين المصريين فى حرب فلسطين.. بالنسبة للنظام العربى فإن جهود مصر ورؤاها تُشبه أساسات الخرسانة التى تختبئ فى باطن الأرض.. لا يراها الناس لكن المبانى تنهار بدونها مهما كانت ضخمة وبراقة المظهر.. بالأمس سافر الرئيس السيسى مبكرًا ليشارك فى القمة العربية بمدينة جدة.. أبرز أحداث القمة حتى الآن هو عودة سوريا لعضوية جامعة الدول العربية وحضور الرئيس بشار الأسد القمة بعد انقطاع عن عضوية الجامعة نفسها منذ ٢٠١٢.. بشكل أو بآخر فإن سوريا قضية مصرية فى المقام الأول.. الارتباط بين مصر والشام ارتباط تاريخى منذ عهد الفراعنة حتى العصر الحديث، وكلاهما مسألة أمن قومى بالنسبة للآخر.. حين قامت ثورة يوليو وأطلقت مصر دعوة القومية العربية كان السوريون هم الأكثر حماسًا وتأييدًا بين شعوب العالم العربى جميعًا.. حين ضربت قوى العدوان محطة الإذاعة المصرية أطلق السوريون إذاعة القاهرة من دمشق.. وقال المذيع السورى هنا القاهرة من دمشق.. تجربة الوحدة بين البلدين كانت نتيجة تفكير القيادات السورية فى أن مصر يمكن أن تساعد فى حل الصراع بين الفرقاء وقتها وأنها أمينة على ذلك وقادرة عليه.. فشلت الوحدة لاعتبارات كثيرة موضوعية وذاتية ولكن بقى أن للبلدين تاريخًا مشتركًا لا يمكن تجاهله ولا المساس به.. طوال الثمانينيات والتسعينيات كان المحور الثلاثى «مصر- سوريا- السعودية» هو حجر أساس النظام العربى، وكانت فوائده كبيرة وعظيمة لجميع الأطراف.. جرت فى النهر مياه كثيرة وتبدلت الحال للأسوأ.. لكن سوريا بقيت مسألة أمن قومى مصرى وعربى لا يقبل التهاون.. ليس سرًا أن مؤتمر الإرهابيين فى استاد القاهرة الذى أسموه «نصرة سوريا» كان من عوامل حسم الجيش قراره بالانحياز للشعب ضد الإخوان.. حضر الرئيس الإخوانى المؤتمر مع رموز الإرهاب وقرر قطع العلاقات مع سوريا.. وفى الكواليس كانت هناك محاولات لتوريط الجيش فى القتال فى سوريا.. كان من المستحيل الوقوف فى جبهة واحدة مع ميليشيات القاعدة وبذور تنظيم داعش، فضلًا عن أنه من المستحيل أن يحارب الجيشان الثانى والثالث الجيش الأول «فى دولة الوحدة كان اسم الجيش السورى الجيش الأول».. بعد ٣٠ يونيو ظهرت أفكار مختلفة تقترح أن تقاتل قوات مصرية فى سوريا، وكان الرد أن مصر لا تقاتل شعبًا عربيًا ومسلمًا وشقيقًا.. كانت وجهة نظر مصر هى ضرورة الحفاظ على الدولة السورية لأن ضياعها يعنى مزيدًا من الإرهاب.. فتحت مصر أبوابها لما يزيد على مليون سورى، وأتاحت لهم فرص عمل وازدهار تجارى من المستحيل أن تتحقق فى بلد غير مصر.. من رسائل حضور الرئيس السورى القمة أن صمود الدول المستهدفة فى وجه الضغوط هو التصرف الأمثل وطوق النجاة.. رغم الأضرار الفادحة خلال اثنى عشر عامًا، إلا أن انهيار الدولة كان سيؤدى إلى نتائج أكثر فداحة وبشاعة بمئات المرات.. الصمود والتماسك إذن هما طريق الشعوب للنجاة من المؤامرات مهما كانت الضغوط.. نجاح قمة جدة يعنى عودة مثلث مصر- السعودية- سوريا.. وأى تصور آخر هو تصور غير عملى بقدر ما.. ثلاث دول كبيرة ولها رؤى راسخة ومستقلة، ويمكنها فى حالة تكامل جهودها أن تصنع الكثير والكثير، وهو ما يدعو للتفاؤل بالقادم بإذن الله.