رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كليوباترا سوبر!

 تابعت على مدى أسابيع الجدل الذى أثاره الفيلم الوثائقى «كليوباترا» منذ أن أعلنت عن إنتاجه شبكة «نتفليكس»، وقد انتظرت حتى شاهدت الفيلم بأجزائه الأربعة.. كى أكوّن رأيًا متكاملًا فيه.. والحقيقة أن مشكلة الفيلم تتجاوز اختيار ممثلة سوداء البشرة للعب دور كليوباترا السابعة آخر ملكات مصر.. بالمخالفة للحقيقة التاريخية.. يمكن وصف الفيلم بشكل عام أنه فيلم «مبتذل» يسىء للحضارة المصرية كلها فى شخص الملكة كليوباترا السابعة، ويظهرها سيدة رخيصة تستخدم جسدها لتحقق مآربها السياسية ولا تتورع عن قتل زوجيها الاثنين الشرعيين، فضلًا عن شقيقتها الصغرى للفوز بالعرش.. وهو من الناحية الفكرية فيلم ساذج وهو يكذب دون أن يجد حرجًا فى الكذب.. فالتعليق الصوتى يقول إن البطالمة اليونانيين تولوا حكم مصر قبل ثلاثمائة عام من ميلاد كليوباترا.. لكنه يفاجئنا بأن بطليموس السادس عشر والد كليوباترا وسليل هؤلاء اليونانيين رجل أسود البشرة ينتمى للعرق الزنجى دون أى تبرير تاريخى لذلك سوى جملة فى التعليق تقول «ثم حدث تحول»!!! دون أن نعرف ما هو هذا التحول الذى أدى لأن يصبح حفيد البطالمة رجلًا أسود البشرة هو وكل المحيطين به فى البلاط.. نفس الاستخفاف يتكرر فى حديث ضيفة رئيسية من ضيوف الفيلم يتم تقديمها بأنها أستاذة فى التاريخ المصرى تقول «فى طفولتى قالت لى جدتى.. دعك مما يقولوه لك فى المدرسة.. لقد كانت كليوباترا سمراء البشرة !!» وأظن أن هذا أغرب سند علمى يمكن أن يقدمه أستاذ جامعى فى العالم كله، وهو أن جدته قالت له دعك مما علموه لك فى المدارس واسمع منى أنا!! نفس المنهج فى النصب والتدليس يستمر فى حديث عالم آثار يبدو أنه من أصل مصرى اسمه إسلام عيسى.. حيث يقول للكاميرا بمنتهى الثقة «كل منا يحب أن يتخيل كليوباترا كما يشاء وأنا أتخيلها مجعدة الشعر مثلى».. هل هناك نصب علمى أكثر من هذا؟ هل العلم يقوم على الحقائق والأسانيد والدلائل المنطقية والقياس العقلى أم على الخيال والوهم؟ إن مجرد المشاهدة الأولى للفيلم تضعك أمام هذه الجمل التى تدل على نية صناع الفيلم المبيتة لقلب الحقائق التاريخية وتزوير التاريخ لصالح وجهة نظر مسبقة يريد صناع الفيلم فرضها.. تزوير حقيقة لون بشرة كليوباترا ليس هو التزييف الوحيد للتاريخ.. فهناك ذلك الفقر الإنتاجى الواضح الذى انعكس على تصوير مدينة بحرية كالإسكندرية كبقعة صحراوية مخيفة.. حيث لا نرى البحر ولا مكتبة الإسكندرية ولا غيرها من معالم الحضارة التى جعلت من الإسكندرية فى ذلك الوقت عاصمة العالم.. وهو نفس الفقر الذى ينعكس على بقية معالم مصر.. حيث لا نرى المعابد العظيمة والمسلات والأهرامات والمبانى التى ظلت تتحدى الزمان لقرون، ولكن نرى بقعًا صحراوية وأشخاصًا سود البشرة يرتدون الأسمال البالية، وربما يكون السبب فى هذا هو فقر الإنتاج، ولكن الأكثر منطقية أنه فقر فى الفكر والخيال والقدرات الفنية والأهم أنه فقر فى النوايا الحسنة والرغبة فى الموضوعية.. ذلك الخلل فى التفكير لدى صناع الفيلم ينعكس أيضًا على عدم الموضوعية فى تصوير علاقة الصراع بين كليوباترا وأشقائها من الملوك التاريخيين لمصر، حيث تم تصوير كلا زوجيها وشقيقيها أيضًا على أنهما أطفال يعانيان من التخلف العقلى والشخصية الضعيفة، وأن قتلها لهما هو فعل عادى أو يستحق التعاطف.. ومن الوارد طبعًا أن تاريخ الملوك فى العالم كله لا يخلو من صراعات السلطة.. لكن هذه الصراعات يجب أن تقدم فى إطار موضوعى يعطى كل طرف حقه دون انحياز رخيص لهذا الطرف أو ذاك.. خاصة إذا تم وصف العمل بأنه عمل وثائقى.. وبشكل عام فإن كل الدلائل تشير إلى أن فيلم «نتفليكس» عمل موجه فكريًا هدفه إعلاء نزعة المركزية الإفريقية من جهة وأعباء النزعة النسوية المتطرفة من جهة أخرى.. حيث يتم التقاط حقيقة تاريخية لتدويرها وإعادة صياغتها ولى عنقها؛ لنصبح أمام امرأة خارقة وسوداء البشرة فى نفس الوقت تهزم الرجال وتخدعهم وتقتل زوجيها المصريين وشقيقيها وتتسبب فى مقتل قائدين رومانيين كبيرين قامت بإغوائهما جسديًا وأنجبت من كليهما دون زواج.. وهو نمط درامى مشابه لأنماط النساء اللاتى قدمتهن الفنانة الكبيرة نادية الجندى فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات.. لكنه لا يليق أبدًا بوثائقى يروى تاريخ ملكة مصرية عظيمة تميزت بالعلم والحكمة.. إن ما قدمته لنا «نتفليكس» ليس تاريخ كليوباترا العادية، ولكن حياة كليوباترا سوبر.. وبين الاثنين فارق كبير كما نعرف جميعًا.