رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شكرًا لمَن صوّبوا مسار الدراما التاريخية المصرية

- الشركة تسعى لإعادة بعث الروح المصرية القومية بكل مكوناتها وتاريخها

فى العقود الأربعة من نهاية السبعينيات لعبت الدراما المصرية التاريخية دورًا كبيرًا فى صياغة رؤية كثير من المصريين من قضايا مصرية تاريخية عديدة. فى سنوات ما قبل القنوات الفضائية كان المصريون ينتظرون شهر رمضان كل عام لمشاهدة المسلسلات التاريخية التى تمت صياغتها بطابع دينى خالص، وكان ذلك تماشيًا مع الجو العام السائد فى مصر من تغول الأفكار الدينية المتشددة. ترتب على ذلك بناء موقف عقلى جماعى مضاد للهوية المصرية القديمة، ولا ننسى المسلسلات الشهيرة التى وضعت أسماء مصرية عظيمة مثل رمسيس الثانى فى عداء مباشر ضد الأنبياء، وحتى الآن تتم إعادة بعضها على بعض القنوات المصرية! اختصرت تلك الأعمال الدرامية شخصية مصر وهويتها فى رافد واحد فقط هو الرافد العربى المسلم الذى بدأ عام ٦٤٢م مع غزو عمرو بن العاص مصر، وتم إغفال الروافد الأعمق من تاريخ وهوية مصر. كنا نواجه ذلك مع المجموعات المصرية حين يتطرق الحديث إلى بعض أسماء الملوك المصريين القدماء.

فى السنوات التى تلت ثورة يونيو، بدأت الدولة المصرية تصويب مسار تلك الدراما كجزء من توجهها القوى فى إعادة بعث الهوية المصرية الحقيقية التى تجمع بين روافد عديدة ويصل عمرها الموثق إلى أكثر من خمسة آلاف عام. الشخصية المصرية بالغة العراقة ولا تحمل صراعًا أو تنافرًا بين مكوناتها التاريخية، فمصر القديمة لم تكن ضد التوحيد، ومصر القبطية لا تعادى مصر المسلمة، ومصر المسلمة تتفرد بشخصيتها عن باقى الدول المسلمة وتستوعب جذورها القديمة والمسيحية! مصر المعاصرة لا يمكنها أن تتنصل من أى طبقة من طبقات تاريخها، وهذا سر قوتها.

 

بعد ثورة يونيو، بدأت الشركة المتحدة فى خوض معركة الوعى والهوية بإنتاج أعمال درامية تاريخية ضخمة لإعادة بعث الروح المصرية القومية بكل مكوناتها وتاريخها وبتصالح تام بين تلك المكونات. هذه المعادلة التصالحية هى أهم أسلحة مواجهة الأفكار المتطرفة بمختلف توجهاتها. فكل تيار متطرف- دينى أو أيديولوجى- كان يريد سلخ مصر من أحد تلك المكونات بالنفخ فى فكرة العداء والتنافر بين تلك المكونات. وأزعم أن الشركة المتحدة قد نجحت، حتى الآن، فى تقديم تلك المعادلة التصالحية. فهناك مجموعة متوالية من الأعمال الدرامية الموثقة لمواجهة مصر ضد ميليشيات التكفير الدينى فى العقد الأخير. وهناك أعمال- مثل مسلسل الإمام الشافعى- تقدم توثيقًا لما يمكن تسميته الفقه المصرى المعتدل. ولم تبخل الجهات المنتجة بأى إمكانات مادية أو لوجستية أو فنية لخوض تلك المعركة الناعمة المصيرية، حتى إن رئيس الجمهورية قد وعد بنفسه بتوفير هذه الإمكانات حين يقدم مبدعو مصر أعمالًا مميزة. لذلك فالكرة الآن فى ملعب هؤلاء المبدعين! ولا عذر الآن بعدم توافر الظروف المناسبة لإبداع أعمال تاريخية مميزة.

 

فالآن يملك هؤلاء المبدعون فرصة ذهبية لكى يغرفوا من تاريخ مصر الحقيقى، والدولة المصرية تفى بوعدها بتوفير كل إمكانات إنتاج ما يستحق من أعمال، وبين أيديهم تلال من الموضوعات والقصص والسير المصرية الحقيقية التى تمتد عبر آلاف السنوات.

وكل ما عليهم فعله لاستكمال الطريق هو فتح قدس أقداس مصر.. كتاب تاريخها الحقيقى ومن بدايته! هناك أبطال مصريون حقيقيون كانوا زعماءً وطنيين وتزعموا ثورات تحرير حقيقية ضد احتلالات دموية وانتصروا وحرروا بلادهم. 

فعلى سبيل المثال هناك أسرة مصرية تتكون من الملكة «تتى شيرى» وزوجها «سقنن رع» أول ملك مصرى شهيد فى حرب تحرير صريحة ضد احتلال أجنبى، ثم ابنها كاموس وابنها أحمس! أسرة ملكية كاملة تخوض حرب استقلال مصرية منذ أكثر من ستة عشر قرنًا قبل الميلاد.

وهناك قادة مصريون قادوا ثورات مسلحة ضد الاحتلال الفارسى ونجحوا فى طرده فى القرن السادس قبل الميلاد.

وهناك ملك مصرى اسمه رمسيس الثالث أنقذ مصر ثلاث مرات من أضخم اجتياح برى وبحرى تعرضت له فى تاريخها، وخاض أول معركة بحرية كبرى فى تاريخ مصر فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد.

مئات القصص الوطنية الحقيقية ومئات الأبطال الحقيقيين يضجعون فى كتب التاريخ ينتظرون مَن يقترب من سيرهم ومجدهم.              

وهناك أيضًا مئات العلماء الذين يضاهون اليوم أعظم علماء الكرة الأرضية، مثل أول طبيب فى تاريخ الإنسانية ومهندسين عباقرة لم يسمع المصريون المعاصرون عنهم شيئًا.

 

رغم أن هناك بعض التحفظات على بعض التفاصيل التاريخية الواردة فى بعض الأعمال الدرامية التى تم إنتاجها مؤخرًا، لكن هذا لا يمنع من تقديم شكر واجب لهؤلاء الذين تصدوا لمهمة تصويب بوصلة الدراما المصرية التاريخية لتصب فى اتجاه صياغة وعى مصرى قومى حقيقى وتقديم صورة حقيقية للنموذج الدينى الذى فضله المصريون عبر حقبات تاريخهم المختلفة وهو التدين السمح المعتدل المصبوغ بطابع الشخصية المصرية التاريخية التى لا تجنح للعنف.

يمكن للدراما التاريخية أن تكون فى السنوات القادمة إحدى الدروع الواقية من وقوع قطاعات مصرية فى فخ التجهيل الدينى والتاريخى وزعزعة الثقة المصرية بالذات.

لقد جددت هذه الأعمال آمالنا فى رؤية المزيد منها خاصة تلك التى تعيد تصحيح المفاهيم التى تم غرسها فى العقود الأربعة بعد انتصار أكتوبر.

 

بقيت نقطة أخيرة وتبدو غامضة لى تمامًا كمشاهد مصرى، وأعنى ما يتم اختياره وعرضه- على شاشة قنوات النيل- من الأعمال الدرامية التاريخية القديمة التى تم إنتاجها منذ عقود، ومَن يقوم بالإشراف على هذا الاختيار وأيضًا مَن يقوم بعمل البروموهات الخاصة بها! فإن كانت هذه الأعمال من تراث التليفزيون المصرى ولا يمكن حجبها، فعلى الأقل يجب أن يتماشى اختيار ما يتم عرضه منها مع رؤية الجمهورية الجديدة ومع اتجاه مصر لتصويب المفاهيم الدينية المغلوطة التى دفعت مصر ثمنها! فعلى سبيل المثال قصة «الفتوحات» أو غزو بلاد الغير فى حقب الخلافات الإسلامية المتعاقبة كان يتم تقديمها سابقًا مغلفة بقالب دينى مقدس! وقد تمت إعادة مناقشة هذه القضايا فكريًا ودينيًا وتم فهمها فى سياقها التاريخى السياسى آنذاك. فكيف- مثلًا- يكون البرومو الخاص بمسلسل هارون الرشيد- الذى يتم بثه كثيرًا على قنوات النيل- عبارة عن إعادة تقديم للفكرة القديمة عن الفتوحات وإلباسها لباسًا دينيًا زائفًا؟! يقول صاحب الصوت نصًا: الخليفة هارون الرشيد المفترى عليه الذى كان يحج عامًا ويغزو عامًا!

فهذا الغزو الذى يبرزه البرومو ويلبسه رداءً دينيًا لم يكن سوى احتلال بلاد الغير.

أتمنى أن تكون قنوات النيل هى القدم الأخرى- بجوار القنوات المصرية الخاصة- التى تسير عليها الجمهورية الجديدة فى طريقها لاستعادة العقول المصرية مما علق بها فى عقود غرس الأفكار المغلوطة.