رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل يُخشى على مصر من العلمانية..؟!

(1)
لدى بعض المصريين بعض المخاوف أو التساؤلات عن مدى الخلط الذى يمكنه أن يحدث بين (تصويب الخطاب الدينى) ومحاصرة الفكر المتطرف من ناحية، وبين تمدد الأفكار العلمانية فى المجتمع المصرى من ناحية أخرى. الغريب فى طرح هذه المخاوف أنها تتخطى مرحلة أو تساؤلًا آخر وجوبيًا. ما هى العلمانية؟! 
أى أن ندرك أولًا ماهية ما تُطرح المخاوفُ من انتشاره قبل أن يكون لدى أى أحدٍ منا القدرة على تقديم إجابات، أو تأكيد المخاوف أو نفيها!
منذ أن بدأ الإنسان تدوين أفكاره منذ آلاف السنوات وحتى الآن، لم يتم الاتفاق إطلاقًا على وجود معنى واحد صارم ومحدد لأى مصطلح سياسى أو دينى أو اجتماعى، بما فى ذلك ما يخص الديانات جميعها! فهل تختلف العلمانية أو تتميز عن جميع تلك المصطلحات بوجود معنى صارم لها يمكن حصره بين قوسين وتعقبه فى أى قرارات سياسية أو اجتماعية أو دينية، أم أنها مثلها مثل غيرها يوجد منها مئات أو حتى آلاف النسخ والصور والمعانى؟!
دراساتٌ ومقالاتٌ وكتب حاولتُ أن تتناول (العلمانية) بالتأريخ والشرح والتفسير، وقدمتْ بالفعل آلاف الأوراق والمعلومات. فبعضهم يرى أنها قديمة قدم الفلسفة اليونانية، بينما آخرون يعودون بها إلى ما قبل ذلك كممارسة وآليات دون أن يكون هناك المسمى موجودًا بالفعل، ويرون أنها مفردة من مفردات الحضارة الإنسانية القديمة شأنها شأن الزراعة والفنون ونظم الحكم!
وبعضهم يعود بها – كأول إرهاصات فى العصور الحديثة- إلى القرن الثالث عشر فى أوروبا وفى ذروة صراع البابوات، وبما مهد الطريق لظهورها رسميًا واصطلاحيًا بعد ذلك بقرنين فى مقدمات عصر التنوير الأوروبى.
هذا عن تاريخها ومولدها اسميًا، أما معناها فقد تم أيضًا وضع مئات التصورات والمفردات والتفسيرات لمحاولة تفسيره. فهى عند البعض تفسير ظواهر الكون بالعلم المجرد، وتسيير شئون السياسة والفنون بما تتفق عليه المجموعات البشرية المعنية. وعند البعض هى فصل الحكومات ومؤسساتها عن السلطة الدينية وزعمائها! 
أو حصر دور الدين ورجاله فى أماكن العبادة، وتقليل دور رجال الدين فى المجالات العامة! 
وإعمال العقل وظروف العصر فى شئون الحكم دون التقيد بنصوص دينية ثابتة!
 وحرية الاعتقاد الدينى، وعدم إجبار أى أحد على اعتناق ديانة معينة، وحماية الحريات الفكرية والعقائدية! 
وهناك ما يمكن تسميته العلمانية المتطرفة الجامدة التى ترفض الاعتراف بوجود المعتقدات الدينية، وتحاول فرض هذا الرفض! وهناك العلمانية المرنة أو الناعمة التى تؤكد التسامح والليبرالية وأن الوصول إلى حقائق دينية مطلقة مستحيل، لذلك فهى تدعو إلى التسامح والمرونة فى أى جدل دينى، وأن هذا الجدل الدينى لا ينبغى له التغول على أى مفردة من مفردات الحياة السياسية أو الاجتماعية الخاصة بتسيير حياة الناس!
(2)

فى العقود الأربعة التالية لحرب أكتوبر، نجح التيار الدينى بمختلف تشعباته وجماعاته فى خلق فزاعة كبرى بين شعوب الدول العربية – خاصة مصر- اسمها (العلمانية)! 
فى ردهات المدينة الجامعية بالمنيا فى التسعينات كنا نستمع لهذا صراحة من بعض طلاب الجماعة الإسلامية الذين استولوا ساعتها على المساحات المخصصة للصلاة، وكانوا يلقون ما أسموه (دروسا دينية) بقوة الأمر الواقع. 
كان أحدهم (يرص) مجموعة مصطلحات متتابعة على أنها المخطط للقضاء على الإسلام، وإفساد المسلمين. تلك المصطلحات (الماسونية والديمقراطية والعلمانية والليبرالية...) دون أن يتطرق أحدهم إلى أى شرح أو مناقشة موضوعية لأى مصطلح منها اعتمادًا على ضعف ثقافة طلاب الجامعة، وهربًا مما لا يدركه أو يفهمه هو!
كان هذا الخطاب شائعًا حتى فى المساجد الرسمية، لكن الفارق أن بعض الشيوخ كان يتطوع – على المنابر- ببعض الشرح، الذى تكتشف بعد أى قراءة موضوعية تاريخية أن هذا الشرح لم يكن إلا مجموعة خرافات وخزعبلات وأوهام!
رغم عدم حدوث مناقشات موضوعية حقيقية على نطاق شعبى حول تاريخ وماهية العلمانية ومدى توافقها أو تعارضها مع الإسلام بخلاف (مواجهات) دفع ثمنها مفكرون، ورغم توفر مادة تاريخية كثيفة عن تاريخ المسلمين منذ عصر النبوة وحتى سقوط ما يسمى بالخلافة العثمانية وأن هذه المادة التاريخية الموثقة إن تم وضعها فى مناقشات علمية جادة فسوف تقلب الفكرة فى رؤوس عوام المسلمين رأسًا على عقب، رغم هذا فإن الواقع الفعلى الآن يرجح تغلغل الفكرة الخرافية التى زرعها التيار الدينى فى عقول كثيرٍ من المصريين! 
هذه الفكرة جعلت العلمانية فى موضع مواجهة عدائية مباشرة مع الديانات بصفة عامة، والإسلام بصفة خاصة. حصرت هذه الفكرةُ العلمانيةَ فى صورتين لا ثالث لهما، الأولى الصورة الأخلاقية المجردة والصورة الثانية هى السياسية بمعنى فصل كل ما يتعلق بالحكم عن الدين، دون تقديم أى شرح تفصيلى لعوام المسلمين!
نجح التيار الدينى فى رسم صورة ذهنية وترويجها بين المصريين بأن العلمانية تعنى انتهاك أخلاقياتهم، والاستهانة بقيمهم وترويج كل ما هو شاذ عنها، وأنها تعنى إخراج المصريين – مسلمين ومسيحيين– من تعاليم وآداب الديانتين! 
وأن الشغل الشاغل لدعاة العلمانية هو مثلا نشر الانحلال الأخلاقى بكل صوره، وأنهم – أى العلمانيون - لكى يتم لهم ذلك يتخفون خلف شعارات براقة مثل الحرية والمساواة، وأن شعار فصل الدين عن الدولة هو وسيلة لذلك! 
وبكل أسف فإن كثيرًا من متعلمى مصر لا يعلمون أكثر من ذلك عن واحدة من أهم القضايا التى تصادمت معها كل الدول وكل الديانات وحددت كلٌ منها موقفها المختلف عن الأخريات!
(3)
صفحات التاريخ – الإسلامى والمصرى- مكتظة بمفاجآت ربما لا تسر مَن قاموا بترويج ذلك بين المصريين. هذه المفاجآت تخص ما يمكن وصفه بأنه ممارسات رسمية صريحة لمفردات ومبادئ العلمانية عبر امتداد العصور الإسلامية وحتى القرن العشرين، بل وحتى الآن! 
ممارساتٌ مرت مرور العابرين وتم اعتبارها أمورًا روتينية لا تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ولم يجد أشد الرافضين للعلمانية أى تناقض بين تلك الممارسات وبين رجم العلمانية نظريًا والتشهير بها!
ولو بدأنا بالأحدث فإن دساتير مصر فى القرن العشرين احتوت كثيرًا من مبادئ العلمانية الصريحة خاصة بعد توقيع مصر بشكل رسمى دولى نهائى على اتفاقية إلغاء الرق والعبودية بجنيف عام 1926م!
ممارسات الاقتراع السرى فى الانتخابات التشريعية قبل ثورة 1952، ثم التشريعية والرئاسية بعدها هى من مفردات العلمانية الصريحة!
مبادىء احترام جميع الديانات السماوية وتساوى عقوبات انتهاك عقائدها هو من مبادئ العلمانية الصريحة!
جميع مبادئ المساواة السياسية والمواطنة واحترام عقائد جميع المواطنين وصيانتها بحكم القانون هى من مفردات العلمانية الصريحة!
الخليفة الأموى الراشد عمر بن عبدالعزيز فى وثيقة صريحة بعث بها إلى كل ولاته قام بممارسة علمانية صريحة وهى استبقاء الأطباء والكُتاّب وجُباة الضرائب من غير المسلمين، وذلك بعد أن كان قد أمر بفصل الموظفين غير المسلمين من وظائفهم بسبب ديانتهم.. وبرر قراره باستبقاء هذه الفئات تحديدًا بحاجة البلاد إليهم! أى أنه اعمل العقل والمصلحة من وجهة نظره! 
ففصل موظفين بسبب اختلاف ديانتهم هو ممارسة دولة دينية، أما الإبقاء على بعضهم رغم اختلاف ديانتهم أيضًا هو ممارسة تتعارض مع الدولة الدينية حتى لو كانت أسباب الإبقاء براجماتية صرفة!
استماع واستحباب أسماء كبرى فى صدر الإسلام للموسيقى علنا – آلات وترية وليست الدف- مثلا هو ممارسة حرية شخصية رغم كراهية بعض الفقهاء لذلك، وهذا من مبادئ العلمانية!
فى العقد الأخير مارس المصريون الاقتراع مرات عديدة بما فى ذلك هؤلاء الذين نشروا تلك الفزاعة بين الشعب المصري، لكنهم كانوا فى مقدمة صفوف المقترعين دون أن يروا فى ذلك رجوعًا عما نشروه سابقا!
طوال قرون ما يسمى بالخلافة الإسلامية، وفى كل يوم تقريبًا فى ديوان الحكم كانت تصدر قرارات، بعضها يشرعن للدولة الدينية، وبعضها من رأس الخلافة بناء على رؤيته العقلية وموازنته للأمور، بما يعنى أنه ممارسة لمفردات العلمانية السياسية، لكنهم كانوا يلبسونها زيًا إسلاميًا!

(4)
قراءة تاريخ أى دولة قراءة مفصلة تكشف أن جميع الدول وجميع الحكومات وجميع الشعوب كانوا – فى كل فترة من فترات ذلك التاريخ- يمارسون على الأقل مبدءً واحدا من مبادئ العلمانية! وقراءة جزء من الدراسات النظرية عن العلمانية تكشف أنه لا توجد صورة واحدة جامدة منها، شأنها شأن كل مفردات النظم والعلوم السياسية والاجتماعية والعقائد البشرية عبر القرون. 
ونكتشف أن هناك صورًا محلية لاحصر لها من العلمانية، تحدد كل دولة بشعبها وقادتها الفكريين وحكامها أية صورة من تلك الصور سوف تصطفى، حسب مفردات تلك الدولة وطبائع شعبها وعقائدهم وما بلغوه من مستوى حضارى وتنموى وثقافى وعلمى!
وحزمةٌ كبرى من مبادئ العلمانية الناعمة أو المرنة لا تتعارض إطلاقا مع الإسلام. وعلى رأس تلك الحزمة مبدأ حرية العقيدة فى العلمانية، و(لا إكراه فى الدين) فى الإسلام! 
العقوبات الجنائية الوضعية فى العلمانية، والعقوبات التعذيرية فى الإسلام!
فى الخمر مثلا أمر الله المسلمين باجتناب تناول الخمر، لكن لا يوجد نص دينى يمنع بيعها وشرائها لغير المسلمين لأغراض السياحة مثلا، والحديث الذى نشأنا عليه (لعن الله الخمر وشاربها و....) هذا الحديثُ من ناحية ليس فوق مستوى الشك فى مدى نسبته للرسول (ص)، كما أن الحديث نفسه لم ينص على تحريم بيعها لغير المسلمين أو أن مرتبات مَن يعملون فى الأماكن السياحية ممن يتحتم عليهم مثلا تقديمها للسائحين هى مرتبات حرام كما نقل الشيوخ لعامة المسلمين فى العقود السابقة! فاللعن فى الخطاب الدينى هو عقوبة أخروية، يمكن – إن صح الحديث– أن يغفرها الله ويعفو عن مرتكبها!
وهو – ليس شرب الخمر لكن صناعتها وبيعها للسائحين مثلًا- فى أقصى تقدير أمرٌ فقهىٌ خلافىٌ وليس قطعيا محسوما! وكانت فى عصورٍ كثيرة سابقة منتشرة فى مجالس الخلفاء ذاتهم!
وفى العلمانية الخمر حرية شخصية لم تمنعها، لكنها أيضًا لم تحث عليها أو تشجعها!
ولا يكفى هذا الموضع لاستعراض جميع تلك القضايا التى تثبت عدم تعارض الإسلام مع كثيرٍ من مبادئ العلمانية، لكن من يريد أن يبحث بعض تلك القضايا بموضوعية - بعيدًا عما طرأ على الفكر الإسلامى فى نصف القرن الأخير– سيصل إلى نتيجة مدهشة!
هذه النتيجة مفادها أن الإسلام فى كثيرٍ من مبادئه الواردة بصراحة فى القرآن الكريم هو ديانة علمانية!
وأن هناك مصطلحا مازال غائبا كمسمى، لكنه حاضرٌ بقوة ككيان وتاريخ وهو (العلمانية الإسلامية)! 
ويشير هذا المصطلح إلى هذا الجزء من العلمانية الذى يتوافق تماما مع أكثر من مائة وخمسة وأربعين آية قرآنية تحث المسلمين على التسامح الدينى حتى مع الوثنيين، وتحثهم على احترام الآخر وعقائده وترك الفصل لليوم الآخر، وعدم المبادرة بالاعتداء، وعدم منعهم من اتخاذ غير المسلمين حلفاء عسكريين وسياسيين!
ويشير هذا المصطلح إلى أول عقدٍ وعهدٍ للمواطنة فى الإسلام، وهو العهد الذى وقعه الرسول (ص) بعد الهجرة مباشرة مع كل سكان المدينة المنورة وساوى بينهم جميعًا – مسلمين وغير مسلمين- فى حقوقهم فى المدينة وواجبهم فى الدفاع عنها! 
ولم يقم الرسول (ص) بإلغاء هذا العهد بعد أن قوى المسلمون مثلًا– كما يحاول أنْ يدعى الآن بعضُ السفهاء المتطاولين على مقام النبوة- لكنه ألغاه بعد أنْ نقضه اليهود!
ويكمل هذا المصطلحَ ويتممه ويرادفه أحيانًا ويسانده مصطلحٌ آخر هو (الإسلام العلمانى)، وهو يشير إلى جميع النصوص القرآنية المذكورة وغيرها مما يثبت من أحاديث أو سنة متواترة عن النبى (ص) تؤكد معانى التسامح والرحمة بالإنسان والحيوانات! 
كما يشير هذا المصطلح أيضا إلى آلافٍ مؤلفة من المواقف والقرارات السياسية والتنظيمية التى وثقتها مصادرُ التاريخ الإسلامى عبر أكثر من أربعة عشر قرنًا مما كان خروجًا عن أطر الدولة الدينية!
(5)
عودة إلى عنوان المقال الذى وجهته إلىّ صديقةٌ أزهرية معتدلة (هل يُخشى على مصر المعاصرة من العلمانية ؟!)
العلمانية شأنها شأن أى مصطلح أو فكرة أو حتى عقيدة دينية منذ بدء الخليقة، لها مؤيديوها ومنظروها ورافضوها، ولها أيضا متطرفوها! 
لا مجال لهذا السؤال إن كان يشير إلى العلمانية المرنة المتوافقة والمتقاطعة مع كثيرٍ من تعاليم الإسلام، ليس بسبب هذا التوافق فقط، لكن لسبب آخر يخص المصريين أنفسهم!
فالمصريون يتخذون كثيرا من المواقف الفكرية، ويمارسون كثيرا من الممارسات الاجتماعية والسياسية اليومية التى تتوافق صراحة مع مبادئ العلمانية ولا يرون أى تعارض بين معتقداتهم وبينها، وربما لا يدرك كثيرون أن هذه المبادئ لها علاقة بالعلمانية من الأساس! 
فهم يمارسون تلك الممارسات لأنها تتفق مع شخصيتهم التاريخية المتسامحة التى تجنح للتعايش، وإعمال العقل والتماسك الوطنى بين جميع المصريين بغض النظر عن دياناتهم وأفكارهم!
لذلك فهناك (علمانية مصرية) موجودة بالفعل فى التكوين المصرى التاريخى، ولولا ذلك لما قامت الحضارة المصرية واستمرت راسخة لقرونٍ طويلة. فكثيرٌ من الأسس التى قامت عليها  تلك الحضارة هى ذاتها مبادىء علمانية صريحة، وحين حادت مصر عن تلك الأسس، وقام بها نظام حكم دينى صريح (الأسرة 21م) انهارت مصر حضاريا!
يطبق المصرى هذه المبادىء بتلقائية شديدة حين تكون فتاة محجبة مثلًا، بينما أختُها غير محجبة، وحين يسخر المصرى كل عام من فتاوى المتطرفين بحرمانية تهنئة المسيحيين بأعيادهم الدينية، فتنهال برقياتُ التهنئة بنسبٍ تفوق كثيرا ما كانت عليه قبل تلك الفتاوى!
وحين انتفضت مصر فى 1977م ضد مشروع تطبيق حد الردة رغم موافقة مجلس النواب عليه فرضخت الإدارة لقرار المصريين!
(فهل يُخشى على مصر إذن من العلمانية المتطرفة؟!)
مَن يحيا بين عوام المصريين فى القرى والمنطاق الشعبية، ويجلس على المقاهى، ويتجول فى الأسواق، ويتابع ردود أفعالهم فى قضايا بعينها، ويشاهد مباريات كرة القدم المصرية، وترقب المصريين لقدوم شهر رمضان مثلا واستعدادات الأسر المصرية له، والخيم الرمضانية، وحتى ترقبهم لخريطة مسلسلات رمضان لانتقاء أعمالٍ بعينها لمتابعتها، وتمسكهم بظاهرة قراءة القرآن الكريم فى شهر رمضان وتمتعهم بآذان صوت الشيخ محمد رفعت، ومشاهد التبرعات للفقراء وموائد الرحمن، وتشبث كثيرٍ منهم بمظاهر التدين الظاهرى، وغيرها من آلاف المشاهد التى تبدو متناقضة أحيانا، من يشاهد ويتابع ذلك ويعايشه يدرك يقينا أنه لا خوف على مصر أو المصريين من أى علمانية متطرفة!
هناك نقطة حاسمة تؤكد عدم منطقية هذه المخاوف، رد الفعل المصرى على التطرف الدينى ونشر الأفكار التكفيرية قسرًا فى مصر فى العقود الأربعة التالية لنصر أكتوبر، رد الفعل هذا لم يتسم بأى عنفٍ مصرى ضد من قاموا بذلك. كان غالبية المصريين فى موقف دفاع عن بلادهم ولم يتسم رد فعلهم – بعد ثورة يونيو- بظواهر انتقامية من مفكرى أو منظرى التكفير الدينى. 
ولكى ندرك أهمية هذه النقطة، علينا أن نتخيل قليلا السيناريو الآخر القاتم، لو لم تنجح ثورة يونيو – لا قدر الله- وقبض التيار المتطرف الدموى بكل عنفه ودمويته وأسلحته وأذرعة مخابراته الخارجية على الحكم! أن نتخيل ماذا كانوا سيفعلون بمصر والمصريين؟!
هذه نقطة ضوء مهمة تعنى أن المصريين – ورغم ما تعرضوا له فى قرونٍ سابقة– ما يزالون يحتفظون بكثيرٍ من ملامح شخصيتهم التاريخية الناضجة المستوعبة لللحظات الحاسمة. أدركوا أنهم قد سقطوا فى الفخ حين صوتوا للتيار الدينى المتطرف والتكفيرى، لكنهم – بعد أن استفاقوا واستعادوا رشدهم- انشغلوا بإنقاذ بلادهم ولم ينشغلوا بفكرة الانتقام!
لذلك فهم لن ينقلبوا عقليا ويتحولوا من ظهيرٍ شعبى ساند التطرف الدينى – بعد خداعهم– إلى فريسةٍ لتطرف علمانى أو غير علمانى! 
فهذا السلوك الانتقامى حاد التقلب يميز المجموعات البشرية غير الناضجة وحديثة العهد بأى حضارة!
(6)
إننى أعتقد أننا لا يجب أن ننشغل بهذا التخوف غير المنطقى، لأن مصر بعيدة جدا عنه، بل يبدو هذا التخوف بالغ العبثية حين نرى ما تعانيه الدولة المصرية فى محاولة استكمال مشاريع التنوير بمنظومة التعليم ومنظومة المؤسسات الدينية الرسمية!
المنطقى أن نعمل فكريا على إزالة هذا الارتباك العقلى الذى غرسه التيارُ الدينى المتطرف عن مصطلح (العلمانية). أن يتم تقديم شروحات مبسطة لعوام المصريين عن حقيقة المفاهيم التى تم تشويه سمعتها ومفهومها عبر حوالى نصف قرن فأصبح  كثيرون منهم يتحرجون من مجرد ذكرها، بينما يمارسون مفرداتها صباحا مساءً!
تصالحُ المصريين عقليا مع جميع مصطلحات التنوير التى مرت بها الشعوب الأخرى فى مراحل تاريخية مختلفة هو هدفٌ أسمى يجب علينا أن نسعى إليه. 
هذا التصالح مرحلة وجوبية لكى تستكمل مصر طريق حداثتها، وهو لا يعنى إطلاقا قبول أو اعتناق جميع تلك المصطلحات. لكن يعنى ألا يخشى المصريون مناقشة أى فكرة وأخذ ما يتوافق معهم - قيما وشخصية وتاريخا - وطرح ما لا يتناسب مع تلك المفردات!
هذا التصالح وجوبى لأننا بالفعل نمارس كثيرا من مفردات تلك المصطلحات ونطمح للمزيد منها، ولا مجال لأن نصل لهذا المزيد وبعض العقول لديها هستيريا الخوف من أوهام وخرافات تم زراعتها قسرا فى تلك العقول وآن الأوان لتحريرها!
إن الخشية الحقيقية على مصر الآن هو التكاسل الشعبى، وقصر النفس، والانتشاء بما تم لدرجة تضعف معها العزائمُ عن استكمال السير فى طريقٍ نحن ما زلنا عند بدايته الأولى وعلى أول درجاته!
مازلنا فى بداية طريق إعادة رسم خريطة مصر – التنموية والتعميرية والعقلية- وفى انتظار الجيل الذى تم إعداده فى السنوات القليلة السابقة للركض فى الطريق الذى مهده لهم شهداءٌ وقادةٌ ومفكرون وأصحاب السواعد من مختلف الطبقات والفئات!