رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سردية «الدين والسياسة» فى عصرى «يوسف وموسى»

هل يمكن أن ينفصل الدين عن السياسة فى مصر؟

ما ترسخ عبر قرون متصلة من التاريخ لا يتغير فى الحاضر بالسهولة التى يتوقعها البعض.. فالعلاقة بين الدين والدولة فى مصر قديمة قدم الدولة المصرية نفسها.

يقول «خزعل الماجدى»، صاحب كتاب «الدين المصرى»، إن الملك فى مصر الفرعونية، وهو بداءة الإله، كان يدمج فى شخصيته وظائف وصفات الإله والملك والكاهن، فبالإضافة إلى دوره الإدارى والسياسى والتشريعى كان الملك فى أقدم العصور المصرية يقوم بكل الواجبات الدينية الكبرى مثل بناء المعابد ومنح القرابين والقيام بالصلاة، لكن الملك لم يستطع القيام بكل هذه الأعمال مع تعدد الآلهة المصرية وتفرق أماكن عبادتها، لذلك اضطر إلى تعيين من ينوب عنه فى خدمة الآلهة.

ملك مصر فى العصر الفرعونى كان يقدم صورة لأعلى درجات الدمج بين الدين والدولة، إذ كان يظن فى نفسه الألوهية، أو الانتماء إلى الآلهة بصورة أو بأخرى، ولم يكن يطلب من الرعية مجرد الطاعة السياسية- كونه ملكًا- بل يطلب أيضًا الطاعة بمدلولها الدينى.. يقول الله تعالى: «وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيرى».

المشكلة الجوهرية فى الصراع الذى نشب بين نبى الله موسى وفرعون هى مسألة فصل الألوهية عن الملك.. فلم ترد إشارات فى القرآن الكريم تدلل على خروج موسى أو أى من بنى إسرائيل على السلطة السياسية لفرعون مصر، فقد كان بنو إسرائيل ونبى الله موسى وأخوه النبى هارون يخشونه كل الخشية، وقد خاطب النبيان المولى، عز وجل، بذلك: «قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى». والحوار الذى دار بين موسى، عليه السلام، وفرعون تركز على موضوع واحد، تمثل فى نزع الألوهية عن الفرعون ودعوته إلى الإيمان بالواحد الأحد رب السماوات والأرض: «قال فرعون وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب آبائكم الأولين».

والقرآن الكريم يحكى أنه لما طال الجدل بين فرعون وموسى حول مسألة «الألوهية»، حسم فرعون الأمر قائلًا: «قال لئن اتخذت إلهًا غيرى لأجعلنك من المسجونين»، ويؤكد ذلك من جديد أن مشكلة «موسى» الذى تربى فى قصر فرعون مع الملك كانت محددة فى الفصل بين الملك والألوهية أو بين السياسة والدين، وهو ما لم يتصوره فرعون بحال.

ثمة حيرة بين الباحثين هل فرعون هو اسم الملك الذى خاض هذا الصراع مع موسى، أم لقب يُخلع على حاكم مصر؟، لا نستطيع أن نحسم هذا الأمر بحال، لكن ما تتوجب الإشارة إليه هو أن وصف العرش الفرعونى بالمُلك جاء فى سياق سردية فرعون موسى: «ونادى فرعون فى قومه قال يا قوم أليس لى ملك مصر». ولو أنك تأملت سورة يوسف فسوف تجد كلمة «الملك» وردت أكثر من مرة كلقب للحاكم فى العصر الفرعونى: «وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى».. ويذهب الشيخ الشعراوى إلى أن المولى، عز وجل، استخدم وصف الملك وليس الفرعون فى سورة يوسف لأن حياة النبى يوسف فى مصر كانت أيام الملوك الرعاة «الهكسوس» الذين تغلبوا على جيوش الفراعنة، وظلوا فى مصر من ١٧٣٠ ق.م إلى ١٥٨٠ ق.م حتى أخرجهم أحمس الأول وشكل الدولة الحديثة الإمبراطورية.

الحالة الدينية فى مصر فى عصر النبى يوسف لم تكن مختلفة عن شبيهتها فى عصر موسى.. فنظرية تعدد الآلهة كانت المسيطرة على التدين المصرى، والملك أو الحاكم هو الممثل أو المسيطر على هذه الآلهة، وخضوع الشعب له لم يكن أساسه الطاعة السياسية وفقط، بل الطاعة الدينية أيضًا. عندما دخل يوسف، عليه السلام، السجن كان معه فتيان من أهل مصر، أدركا من عِشرة الحبس صفاء «يوسف» ونقاءه وأنه من الصِّدّيقين، لذا لجآ إليه فى تفسير أحلامهما. ويحكى القرآن الكريم أن «يوسف» لجأ قبل التفسير إلى دعوتهما إلى عبادة التوحيد: «يا صاحبى السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان».

تعدد الآلهة كان أساس التدين المصرى أيام «يوسف»، لكن خلافًا لنبى الله «موسى» توجه «يوسف»، عليه السلام، إلى تصحيح عقيدة القاعدة الشعبية، من خلال مواقع احتكاكه بهم، حتى ولو كان داخل السجن، فى حين توجه «موسى»، عليه السلام، إلى مواجهة الحاكم فى قصره، ورغب فى تصحيح تصوره الدينى وإقناعه بأنه مربوب وليس ربًا، وكانت له قضية أخرى تتمثل فى إنقاذ بنى إسرائيل «قومه» من اضطهاد فرعون لهم.. وفى الوقت الذى حكى فيه القرآن الكريم وقائع وتفاصيل المناظرة العقائدية التى خاضها «موسى» مع «فرعون»، نجده لا يقص علينا أى مناظرات شبيهة وقعت بين يوسف وملك مصر، وبينما حكى القرآن محاولة «يوسف» تصحيح عقيدة رفيقيه فى السجن قبل أن يؤول لهما الحلمين، نجده لم يذكر ذلك حين تناول حلم البقرات السبع «السمان والعجاف» الذى رآه الملك، بل أشار إلى أن الفتى الذى قضى بعض الوقت رفقة «يوسف» بالسجن ذهب إليه فى محبسه وطلب منه تأويل الحلم، ثم عاد إلى الملك بما قال يوسف، فطلب الملك بأن يأتوا له بيوسف: «وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى»، وعندما وصلت الدعوة الملكية إلى النبى أصر أولًا على أن يراجع الملك مسألة حبسه ظلمًا فى قضية النسوة اللائى قطّعن أيديهن، بعدها خرج من السجن وذهب إلى البلاط ليعمل وزير مالية فى معية الملك.

نخلص مما سبق إلى أن ملوك مصر فى العصر الفرعونى كانوا يجمعون فى أيديهم السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، وطاعة الشعب لهم كانت تتم على المستويين، وبالتالى لم يكن هناك أى نوع من الفصل بين مسألة الدين ومسائل الدولة، وكان البلاط الفرعونى يضم الوزراء، كما يشمل كهنة المعابد، وفى الوقت الذى خاض فيه نبى الله «موسى» صراعًا مع «فرعون» يهدف إلى تجريده من فكرة الألوهية وتأكيد عبوديته لله شأنه شأن كل البشر، وكان دافعه فى ذلك رفع الاضطهاد الدنيوى الواقع على قومه من بنى إسرائيل، لم يحكِ القرآن أن نبى الله «يوسف»، الذى عاش فى مصر، اهتم بنصح الملك بفصل الدين عن الدولة أو تصحيح مفاهيمه العقائدية، بل صرف همه على هذا المستوى إلى الشعب، واجتهد فى تصحيح عقيدة من قابل ودعاه إلى عقيدة التوحيد.. ويرد البعض ذلك إلى أن الملك فى ذلك الوقت كان من الموحدين بالله.