رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد فؤاد نجم.. سندباد التراث الشعبى

أحمد فؤاد نجم
أحمد فؤاد نجم

الشاعر الكبير هو الامتداد الحقيقى المتطور للمعلم الأول بيرم التونسى

وصف قصائد شعره بأنها حرية و«حصان بيلف العالم رغم القضبان»

اعتبر الشعر الحر «اللى بيطلع من القلب ويوصل للقلب عدل»

مولع بالتناص مع شعر الفصحى بعد أن يلقى عليه «إكسير» العامية

تمر هذا الشهر الذكرى التاسعة لوفاة الشاعر أحمد فؤاد نجم المتوفى فى ٣ ديسمبر ٢٠١٣، وأحمد فؤاد نجم من وجهة نظرى المتواضعة هو الامتداد الحقيقى المتطور للمعلم الأول بيرم التونسى.

فهو يشبهه فى سلاسته اللغوية، وفى حسه الفكاهى الساخر، وفى رؤيته الناقدة للمجتمع والسياسة. ويختلف عنه فى أصوله الشعبية الوطيدة من «كفر أبونجم» بأبى حماد شرقية إلى «حوش قدم» بالغورية، وكل ما يتعلق بهما من مظاهر مثل: رواة السيرة، والمواويل، والموالد الصوفية، والأغانى والحكايات والأمثال والألعاب الشعبية، والقفشات المصرية الحارقة الخارقة، وحداقة «حذاقة» ابن البلد وفهلوته المتفردة.

كما يختلف عنه فى تجربته الحياتية من حيث اختياره الواعى لحياة الصعلكة سجينًا وحرًا، وفقيرًا ومستورًا، ومن حيث قصره لشعره كله على القضايا السياسية فى مصر والوطن العربى والعالم بأسره أيضًا، حيث يقول عنه الشاعر إبراهيم عبدالفتاح فى ذكراه:

من كفر نجم لقدم السعد

من حوش قدم لمقام الورد

السعد عامنول كان «خوش»

كل السنين عدوا ما عدوش

لا خاف ولى، ولا خاف قراقوش

وهات فرح إلا وغنى

وهات لى ثورة بدون أغانيه

وهات لى ليل فات ما سهرهوش

أما أحمد فؤاد نجم نفسه فيهدى أعماله الكاملة إلى «أحمد بن عروس، وعبدالله النديم، ومحمود بيرم التونسى.. شعراء الشعب الخالدين»، كما نجده يكتب قصيدة هجاء لاذعة داخل الديوان فى شاعر ما لأنه قد تطاول على بيرم التونسى، حيث يقول فى بدايتها:

وأبدأ كلامى عن الأشعار

واللى زانوها

بيرم وخيرى

وكل الناس اللى صانوها

وذلك قبل أن ينطلق موضحًا سبب كتابته القصيدة:

يا عم بيرم وحياتك

واللى أماتك

وخلا ناس مآبين

عايشين على مقالاتك

وواد مقاول يتطاول

على مقاماتك

لا جعل من الشعرا الأندال

مسخة وعبرة

ويحدثنا نجم فى مقدمة أعماله الكاملة عن مفهومه للشعر، فيصف شعره قائلًا: «القصايد فى هذا الديوان تقدر سيادتكم تسميها (الشعر الحر) وأنت مستريح البال والضمير، لأن الشعر حرية، وكل واحد يسمى شعره على هواه. وإذا كان السادة أساطين النقد الأدبى رأيهم أن الشعر الحر هو اللى (بلا قافية ولا شكل) فهم أحرار، لكن أنا رأيى إن الشعر الحر هو اللى بيطلع من القلب عدل أو يوصل للقلب عدل». وكيف لا يكون هذا رأيه وهو القائل:

والشعر حصان

رغم القضبان

بيلف العالم

كيف يشاء

ولا شك فى أن نجم كان يقصد بكلمة «ولا شكل» الشكل العمودى التقليدى لكتابة القصيدة، ولهذا فقد أحال وصف «الحر» من الشكل الفنى إلى المضمون؛ كما ربط لفظ الحر عند شرحه له بحرية الإبداع والتلقى، ولم يربطه بأسلوب صياغة النص. على الرغم من أن قصائد نجم كلها تصنف على مستوى الشكل أيضًا، بأنها من الشعر الحر/ شعر التفعيلة.

ولم يرتب نجم أعماله الكاملة الصادرة عن دار ميريت عام ٢٠٠٥ وفقًا لترتيب صدور دواوينه، ولا وفقًا لتواريخ نشر قصائده أو كتابتها، بل وفقًا لهواه الشخصى أيضًا. ولهذا لم يكن غريبًا على أيقونة الثورة أن يبدأها بقصيدة «الرسالة رقم (١) من معتقل طرة»، التى كتبها عام ١٩٧٧، ويقول فى بدايتها:

كل ما تهل البشاير

من يناير كل عام

يدخل النور الزنازن

يطرد الخوف والظلام

لكنه سرعان ما يختار قصيدة «سندباد» التى كتبها عام ١٩٦٧ لتكون ثانى قصائد أعماله الكاملة، وهو اختيار له دلالته لسببين؛ الأول: أنه شخصية تراثية تنتمى لدائرة الحكايات الشعبية المولع بها نجم. حيث يقول مثلًا فى وصفه لحراس المعتقل:

واقفين بالقيد

يكتفوا عنتر وأبوزيد

ويهينوا دياب

والثانى: أن السندباد هو أكثر الشخصيات التراثية تكرارًا فى قصائده كلها، بما يملكه من خبرات شعبية اكتسبها من جولاته فى بلاد الله، ويحرص على نقلها للناس فى محبة بالغة، حيث يقول متحدثًا عن كلام السندباد عقب عودته:

واسمع كلامه وحلله

تلقاه بسيط من أوله

تعمل حويط وتأوله

تطلع غشيم

قال الحكيم:

وتظهر هنا براعة نجم فى السيطرة على لجام التداعى الشعرى المتدفق، بحيث يقود المعنى الإيقاع وليس العكس. فالسطر الأول يرتبط دلاليًا بالسطر الثانى بوصفه نتيجة له، بالإضافة إلى ارتباطه به صوتيًا عبر تكرار «الهاء» ضمير الغائب مرتين فى كل سطر، وعبر القافية «حلله، أوله».

أما السطر الثالث فيتعلق دلاليًا بالسطر الثانى عبر تقنية التقابل؛ فالبسيط عكس الحويط. والمعنى الأول السهل المألوف، عكس التأويل العميق المتحذلق. وعلى الرغم من ذلك فإن بالسطرين تآلفًا صوتيًا مدهشًا بين كلمتى «بسيط» و«حويط» من جهة، وبين كلمة «أوله» التى تصير هى نفسها «تأوله» بزيادة تاء فى أولها من جهة أخرى.

أما السطر الرابع فيرتبط بالسطر الثالث عبر تقنية التقابل أيضًا، حيث يتحول «الحويط» إلى «غشيم» فى قفل المربع الشعبى، قبل أن يتسلم منه السطر التالى بتماثل صوتى فى قافية الميم، وتقابل دلالى أيضًا بين «الغشيم» و«الحكيم». 

ويلاحظ على المقطع السابق أن «الهاء» ضمير الغائب قد تكررت خمس مرات فى ثلاثة أسطر متوالية، والضمير فى المرة الأولى يعود على السندباد «كلامه»، لكنه فى المرات الأخرى كلها يعود على الكلام نفسه «حلله/ تلقاه/ أوله/ تأوله». وعلى الرغم من أنه ضمير غيبة؛ فإن هذا التكرار المكثف للضمير وبخاصة فى موقع القافية المتميز ثلاث مرات متوالية، يجعله فى بؤرة الحضور، وهذا ما يريده الشاعر بالفعل، حيث ينتقل فورًا إلى رواية كلام السندباد/ الحكيم:

الشعب هو الباقى حى

هو اللى كان، هو اللى جى

طوفان شديد، لكن رشيد

يقدر يعيد، صنع الحياة

والشعب لما يقول

يا أصحاب العقول

نسمع.. ونوعى.. ونحترم

صوت الإله

وهنا تعمل تقنية «القناع» بصورة فاعلة، فيصبح الصوت المتكلم صوتًا مزدوجًا، فهو صوت السندباد فى ظاهر النص، لكنه صوت نجم أيضًا فى باطنه. بل صوت غيره أيضًا من الشعراء الثوريين الذين يتناص معهم بوعى أو بغير وعى، حيث تذكرنا كلمات «الشعب/ يقدر/ الحياة/ الإله» فى المقطع السابق بقول أبوالقاسم الشابى:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة

فلا بد أن يستجيب القدر

ولا بد لليل أن ينجلى

ولا بد للقيد أن ينكسر

ولا غرابة فى ذلك، فنجم مولع بالتناص مع شعر الفصحى، بعد أن يلقى عليه إكسير العامية، ليصبح خلقًا جديدًا سهلًا وعميقًا مثله، فهو يقول مثلًا:

أرضك عرضك

باب الدار

صبحوا مداسة للسمسار

نعطش.. ولا نشربش عكار

فيذكرنا بقول عمرو بن كلثوم فى معلقته:

ونشرب إن أردنا الماء صفوًا

ويشرب غيرنا كدرًا وطينًا

كما يذكرنا أيضًا بقول عنترة فى الوقت نفسه:

لا تسقنى ماء الحياة بذلة

بل فاسقنى بالعز كأس الحنظل

لكنه قد صهر البيتين بموهبته، فأخذ «العكار» من الأول، ورفض المذلة من سياق الأول ونص الثانى.

كما يقول على سبيل المثال أيضًا، فى ختام قصيدة «يا عرب»، مؤكدًا على عودة الحقوق العربية السليبة بفضل مصر، مهما طالت سنوات الاحتلال:

حقنا وحتمًا يعاد

بس لو بانت سعاد

والبيان ده له معاد

والمعاد حيكون فى مصر

حيث يفجر نجم معانى جديدة من مطلع أشهر قصيدة شعر كتبها كعب بن زهير فى مديح الرسول الكريم بجرأة مذهلة. فكلمة «بانت» فى العربية من الأضداد، فهى تدل على المعنى وعكسه، وقد استخدمها كعب بمعنى «بعدت»، وتناص نجم معه لكنه استخدمها بمعنى «ظهرت»، وقد امتص نجم من البيت رصيده الروحى، وكأنه قد قال: وما النصر إلا من عند الله، وبإذنه وأوانه.

ولمَ لا؟ وهو الرجل الزاهد فى حياته، وصاحب الحس الصوفى الذى يبرز كثيرًا فى قصائده، وأبرزها قصيدة «الذكر»، التى جمع فيها أولياء الله الصالحين كلهم تقريبًا، موضحًا خصوصية كل منهم، وقد قال فى بدايتها:

الله حى

وسع سكة يمر الضى

شيخنا العاشق

جى وراشق

سهمه

وماشى حدى بدى

فيحار القارئ هل هذا هو الشيخ المسلم، أم القديس مار جرجس المسيحى، أم أنه المخلص الشعبى المنتظر بإذن الله؟.

وولع نجم بالتناص مع التراث الشعرى الفصيح وعصرنته، قد يتجاوز أبيات الشعر إلى شخصيات الشعراء أنفسهم. فهو فى قصيدة «صندوق الدنيا» مثلًا، يتخذ من التناص مع صيغة عنترة الشهيرة والمتكررة فى ديوانه، أثناء حديثه إلى عبلة فى سياق الفخر بفروسيته حيث يقول: «سلى يا عبل رمحى وصارمى/ وما فعلا فى يوم حرب الأعاجم»، ويقول: «سلى يا عبل عمرًا عن فعالى/ بأعداك الألى طلبوا قتالى»، ويقول: «سلى يا عبل قومك عن فعالى/ ومن شهد الوقيعة والطرادا».

فيقول نجم بعد أن أخذ فعل الأمر الفصيح فقط من بداية بيت عنترة، وأكمل حكاية البطل الشعبى التراثى بما يراه قد جدّ عليه من تحويرات معاصرة، حيث يقول:

سلى الجمارك والإدارة

يا عبلة يا حتة حمارة

عن لعبة التهريب وعنى

يا بنت مالك العمارة

صاحبت فيكى ألف فارس

وجبتهم لك العمارة

عملتى فيها نص فلة

ولبستى برقع الطهارة

عشان سى عبده

ده بوى فرندك

أبوالشوارب مستعارة

يا هبلة

يا أم دماغ رومانسى

يا مأخرانى فى التجارة

دفعت فيكى دم قلبى

وطلعتى بيعة بالخسارة

فما أبشع الصورة التى رسمها نجم لعنترة المعاصر، والتى تذكرنى بالصورة المقززة التى رسمها الشاعر الروسى الكبير ميخائيل ليرمنتوف لبطله المعاصر فى روايته «بطل من هذا الزمان».

على أن نجم لم يسجل فى ديوانه كله أى شعر فصيح له، سوى المقطع الأخير فى قصيدته السابقة نفسها، والتى امتدت على غير عادته فى ٢١ صفحة، وأرخها بعام ١٩٨٠. واللافت للنظر أن القصيدة التى تتألف من رباعيات متنوعة القوافى، وينتهى البيت الرابع فى كل منها بقافية الراء المكسورة، والتى تتحدث فى مقطعها الختامى عن الطفل ومستقبله، ويقول ضمنها:

فيم الإحسان وحتاما

فى قوم أكلوا أقوامًا

بالسحت وبالباطل عاما

وسنينا بصنوف القهر

قد فاض الكيل أيا سادة

والجوع يعربد بزيادة

والهم لحاف ووسادة

يقلقنا إلى وجه الفجر

هذه القصيدة متطابقة فى وزنها، وفى قافيتها الرئيسية، وفى موقفها السياسى وبعض معانيها، مع رائعة الشاعر التونسى الكبير آدم فتحى «يا ولدى»، التى استمع إليها الشيخ إمام فى ندوة بتونس عام ١٩٨٤، فلحنها على الفور. وهو يقول فى مطلعها الذى ينتهى كله بقافية الراء المكسورة، كما فعل نجم فى مطلعه:

لا تبكى فأحزان الصغر

تمضى كالحلم مع الفجر

وقريبًا تكبر يا ولدى

وتريد الدمع فلا يجرى

على أن تأثير نجم فى شعراء الفصحى المجايلين له، يمكن أن نجد له أصداء بمصر أيضًا. فعلى سبيل المثال فى قصيدة نجم «التضليل» يتحدث نجم عن الخلاف بين الشيعة والسنة، موضحًا رأيه فيه، ومنهيًا قصيدته بذكر الحسين.

وفى قصيدة أمل دنقل «من أوراق أبى نواس» يتحدث أمل عن اتهام والد أبى نواس وسجنه بسبب تشيّعه، موضحًا رأيه فى القضية، ومنهيًا قصيدته بمقطع يتحدث فيه عن الحسين أيضًا. وقد قال نجم بقصيدته:

يا أسيادنا اللصوص

قرينا فى النصوص

لو الإنسان يلوص

يغوروا الفرقتين

وشفنا فى الكتاب

لقينا الدين حساب

وثورة وانتساب

وعين تساوى عين

بينما قال أمل فى قصيدته:

لا تسألنى إن كان القرآن

مخلوقًا أم أزلى

بل سلنى إن كان السلطان

لصًا أم نصف نبى

أما تأثر نجم بشعراء العامية المصريين المعاصرين، فيمكننا أن نلمحه فى مواطن كثيرة مثل قوله:

والنيل نجاشى

ما فيش ما جاشى

تملّى ييجى

أخضر مليجى

حيث تناص مع شوقى فى عاميته «النيل نجاشى»، ومع فؤاد حداد الذى ربط بين النهر والأخضر «المليجى» حين قال:

يا العروسة اللى بتغسل

خلاجتها فى خليجى

من شفايفك تمر معسل

دوقى قلبى خس مليجى

وفى مثل قول نجم فى قصيدة «على بابك يا ست» حين نذر عروسًا لأم هاشم، إذا عاد من رحلاته محققًا لمراده كما فعل السندباد:

وأجيب لك عروسة

واسمى العروسة

حلاوة زمان

متأثرًا بقول صلاح جاهين فى أغنيته «سوق بلدنا»:

حلاوة زمان

عروسة حصان

وآن الأوان

تدوق يا ولد

ومثل قوله فى قصيدة «الأخلاق»، التى غناها الشيخ إمام:

مناعة أرزاق 

جلابة أرزاء

يا سخامة يا لطامة

ياللى اسمك أخلاق

متأثرًا بقصيدة فؤاد قاعود عن الموضوع نفسه، والتى غناها إمام أيضًا، ويقول فيها:

يعوض الله على الأخلاق

الناس فى سباق

على البكش والاسترزاق

امسك يا بوليس

أما تأثيرات نجم فى شعراء العامية التالين له فهى كثيرة بكل تأكيد، وبخاصة بفضل شيوعها فى أغانى الشيخ إمام التى صارت جزءًا من ذاكرة المثقفين والمبدعين الوطنيين، بعد أن حفظوا معظمها عن ظهر قلب.

فأنا مثلًا لا أستطيع الاستماع إلى أغنية «فى قلب الليل» للشاعر عصام عبدالله، دون أن يقفز إلى ذهنى على الفور هذا المقطع من قصيدة «فى الليل» لنجم، بما فيه من براعة الصورة الشعرية، حيث يقول:

الشارع نايم تحت جناح الليل همدان

وعيون النور

تعبانة بتنعس ع العمدان

والكون ملفوف

بعباية نسجها الليل بالخوف

وف بحر الضلمة رأيت على البعد

شبح إنسان

حققت بعينى

لقيتها يمامة وكاسرة الطوق

كرابيج الليل

ناقشينها جراح

من تحت لفوق

وعندما أستمع مثلًا إلى قصيدة الشاعر مدحت العدل «إحنا شعب وهمه شعب»، التى يقارن فيها بين مفردات حياة الشعب المصرى ومعتقداته، المتباينة مع معتقدات الإخوان وحياتهم. ترن فى أذنى أصداء قصيدة نجم «هُما مين»، التى يقارن فيها بين حياة رجال السلطة وحياة أفراد الشعب العاديين، حيث يقول نجم:

هما مين وإحنا مين

هما الأمرا والسلاطين

هما بيلبسوا آخر موضة

وإحنا بنسكن سبعة فأوضه

هما بياكلوا حمام وفراخ

وإحنا الفول، دوخنا وداخ

هما حياتهم بمبى جميلة

هما فصيلة وإحنا فصيلة

على أن نجم لم يكن متعاطفًا مع الشعب على طول الخط، بل كثيرًا ما ثار عليه أيضًا بسبب استسلامه للظلم والقهر، ومن ألطف هذه المرات قوله:

يا شعب ثور

داهية تسمك

وشيل أصول أسباب همك

ولمَ لا؟ وقد شرح لهم نجم المنظر الشعبى، استراتيجية الحل السياسى الثورى، وآليات بناء المستقبل المشرق، فى فسحة حوش قادم، حيث قال:

قال لك إيه

قال لك آه

وجع الراس ح نعالجه بإيه؟

قال لك تدى الناس القوت

قال لك طب والجهل يا بيه؟

قال لك سيب الكلمة تفوت

طب والكلمة تفوت إزاى؟

قال لك لما الضلمة تموت

طب والضلمة تموت إزاى؟

قال لك لازم بالنبوت

والنبوت حنجيبه منين؟

قال لك لما نهز التوت

وبغض النظر عن المضمون الثورى؛ يجب أن نلتفت إلى الصياغة الشعبية المدهشة للأبيات. فهو يبدأ من طلسم سحرى مصرى فهلوى يستخدمه الحواة هو «البلى بلى باه» الذى يمثل لازمة متكررة فى القصيدة، ثم ينتقل إلى عبارة شعبية أخرى هى «قال لك إيه؟ قال لك آه» التى يعد فيها المتحدث العليم بباطن الأمور جمهوره، بالرد على جميع الأسئلة المنتظرة أيًا كانت. ثم يصيغ باقى المقطع فى صورة أسئلة عويصة، وإجابات بسيطة مقنعة. حتى يصل إلى «نبوت» المواجهة الشعبى، مستخدمًا العبارة الشعبية «هز التوتة»، حيث لا جنى للثمار دون عناء فى الحصول عليها. ومستندًا على الرصيد الثورى بالوعى الجمعى المصرى لبديع خيرى وسيد درويش فى أغنية «هز الهلال يا سيد».

قال لك قدر خوفنا نهز؟

قال لك

نشرب صبغة يود

ح تطهر أيوب من صبره

وتفجّر كيد المكبوت

وتفوق يونس من نومته

ويفلفص من بطن الحوت

آدى البير، وأدى غطاه

وادى وجعنا

وادى دواه

والبلى بم بم

والبلى باه

قال لك إيه

قال لك آه

إن التراث الشعبى يتدفق من وعى نجم بلا لجام، فبالإضافة إلى ما سبقت الإشارة إليه يظهر لنا يونس وحوته، وأيوب وصبره، والمثل الشعبى «عارف البير وغطاه»، الذى يشير إلى معرفة الشخص بجميع الأمور ما ظهر منها وما بطن.

لكن الحل الذى يقدمه نجم لعلاج الشعب من خوفه وصبره، وهو شرب «صبغة يود»، يبدو للوهلة الأولى بوصفه حلًا كوميديًا ساخرًا، لكنه فى حقيقة الأمر حل مأساوى بامتياز، وكأن الشاعر يقول لهم بنعومة بالغة: إما الثورة أو الموت.