رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قلمى جناح طائر

أحيانًا لا أتصور أن هذا يحدث الآن.. ألا يحق لإنسان أن يختار أى شىء حتى لون ملابسه بحرية.. ولكنه يحدث فى بقاع مظلمة من العالم.. وهذا الإنسان هو امرأة.. المرأة فقط هى المفروض عليها ذلك.. فى مجتمعات ما زالت تعتبر المرأة عورة لا يجب أن يراها أحد غير ذويها.. كأنها سلعة تُباع وتُشترى تعيش النساء حياة تعيسة خانقة تجعلهن يفكرن ويقدمن على الانتحار، لعل فى الموت حياة، بعد أن أصبحت حياتهن موتًا، فهن لا يتنفسن أكسجين الحرية، محرم عليهن الاختيار، لا تختار الفتاة مصيرها أو مستقبلها، بل لا تختار ملبسها، والمدهش أن هذا يحدث الآن فى القرن الـ٢١ بعدما قطع العالم أزمنة طويلة؛ ليصل إلى مفهوم الحرية، أن يختار كل شخص حياته كما يريد يأكل، يلبس، يدرس، يعمل.. بإرادته الخاصة لا أن يفرض عليه أحد شيئًا، بعد أن وصل العالم المتحضر إلى مفهوم أن المرأة مثل الرجل تفعل ما تريد وما تقدر عليه.

ولكن محاولات النساء فى هذه المجتمعات، مثل إيران وأفغانستان لا تتوقف للحصول على حقهن فى الحياة، قد تكون محاولات نادرة ومكتومة، لكنها تحدث رغم القهر والرعب الذى يحاوطهن، والأمل دائمًا لا يغيب بتحقيق المستحيل، أحيانًا يعبرن عن تمردهن على الأوضاع المفروضة عليهن بالكتابة، أو بالرقص، وأحيانًا بالخروج إلى الشوارع والتظاهر، وما حدث فى إيران خير شاهد على ذلك، فقد تحوّل قتل الفتاة مهسا أمينى على يد شرطة الأخلاق، لأنها لا تلتزم بالملابس التى يفرضها النظام، إلى ثورة تقودها النساء، ثورة على غطاء الرأس المفروض عليهن بقوة، فخلعن الحجاب بشكل جماعى وطالبن بأن يكن حرائر فى اختيار ملابسهن وكل شىء يتعلق بحياتهن، وواصلن النضال رغم سقوط العديد من القتلى حتى ألغيت شرطة الأخلاق وإن كان البعض يرى أن إلغاءها ليس حقيقيًا. 

لأن فى الواقع شرطة الأخلاق وجماعات مثل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كأنها أُنشئت من أجل النساء فقط، وتم اختراعها للتحكم فى المرأة وليس أى شىء آخر فى هذه المجتمعات، يبدو فى تصورهم أن المرأة هى المنكر وهى الوسواس الخناس وليست الأصل فى كل خير أنعم الله به على هذا الكون.. ولعل أغلب المتطرفين دينيًا لا يحترمون النساء، بل إنهم يمارسون هذا التطرف على المرأة بشكل أساسى، لأنها فى حقيقة الأمر هى شغلهم الشاغل، وتكون النساء غالبًا هن أول ضحايا التطرف. 

«قلمى جناح طائر.. سيخبرك بالأفكار التى لا يسمح لنا بالتعبير عنها والأشياء التى لا يسمح بأن نحلم بها».. 

هكذا عبّرت نساء أفغانيات عما يحدث لهن ولغيرهن فى هذه البقعة القاسية من العالم بالكتابة، من خلال كتاب «قلمى جناح طائر»، الذى ضم قصصًا خيالية مستوحاة من الواقع كتبتها ١٨ كاتبة من أفغانستان، ونُشر منذ عدة أشهر، وعرض بعض هذه القصص من خلال منصة إلكترونية عالمية، حيث تناولت القصص حياة النساء فى ظل قواعد حكومة طالبان الصارمة التى تفرض قيودًا على ملابس المرأة وعملها ودراستها وما تفعله ولا تفعله بشكل عام، وتناولن كل المشكلات التى تواجهها ملايين النساء والفتيات وأملهن فى التحرر وممارسة حياتهن كما يحلو لهن، ومنها حق المرأة فى العمل والفتيات فى التعلم، واستخدمت الكاتبات أسماء مستعارة، حيث تساءلت إحداهن «هل ارتداء حجاب وردى خطيئة؟» فتقول إنها استيقظت وقد تملكها شعور بالإصرار لأن ترتدى غطاء رأس ورديًا لتصارع اللون الأسود الذى ترتديه كل يوم، حيث إن «طالبان» تفرض اللون الأسود، واللون الوردى يشعرها بأنوثتها المفقودة تحت الرداء الأسود، وتحكى أخرى عن أن الفتيات يخطبن فى سن ١٣ سنة، حيث إن أهلهن يقولون إن «طالبان» لن تُعيد فتح المدارس أبدًا؛ لذا ينبغى أن تذهب الفتاة إلى بيت الزوجية، وأن الفتيات يتزوجن فى سن صغيرة للغاية لشعورهن باليأس عند وصول «طالبان»، كما تقول الكاتبات إن جذور المشكلة ليست فى الحكومات، بل إنها أفكار الرجال الشريرة تجاه النساء، حيث تأتى أنظمة الحكم الأفغانية وترحل ولكن المجتمع الأبوى راسخ فى مكانه، ودائمًا تعيش الأفغانيات فى إطار قيود وضعها الرجال، ولكن الأمل لا يغيب، حيث تقول كاتبة أخرى إنها تؤمن بأنه يومًا ما سوف تصبح أفغانستان بلدًا جيدًا للنساء، ولكن هذا الأمر قد يستغرق بعض الوقت.

كاتبة أخرى أفغانية تقول إنها فكرت فى الانتحار، لكنها قالت لنفسها: «أنت قوية» وإن ذلك سوف يؤثر على حياة الكثير من الأشخاص، وإنها يجب أن تكون عطوفة معهم وإنها تستطيع تخطى الأزمة وعدلت هكذا عن الفكرة. 

وخلال الاحتجاجات فى إيران بعد مقتل مهسا أمينى، التى أحرقت فيها النساء الحجاب، عبّرت سارينا بناهيد الفتاة الإيرانية التى تعيش فى بلد مجاور لإيران، منذ ثلاث سنوات، عن موقفها الرافض لشرطة الأخلاق وتضامنها مع الاحتجاجات، من خلال تصميم رقصة خصيصًا تعبّر بها عما بداخلها، وقالت إنها كانت خائفة وهى تفعل ذلك لأن الرقص دائمًا ممنوع مثل الغناء، وأن أهلها وأصدقاءها ما زالوا يعيشون فى إيران، ومنهم مشاركون فى الاحتجاجات التى هى مجرد بداية وخلعت غطاء رأسها وأسقطته على الأرض خلال الرقصة.

وتقول الصحافة الفرنسية إن احتجاجات النساء الإيرانيات غيّرت فعلًا وجه الشارع فى طهران، ولم تعد أى فتاة ترتدى الحجاب فى جامعة طهران، حيث جعلت صحيفة «ليبراسيون» وجه إيران الجديد موضوع غلافها والصور التى نشرتها تظهر أن غالبية النساء تزاول نشاطها فى الشوارع دون غطاء الرأس، ونقلت عن طالبات إيرانيات قولهن إنه لم تعد أى فتاة ترتدى الحجاب فى الجامعة.

أى أن حراك واحتجاجات النساء قد يؤتيان ثمارهما، قد يحرران بلدًا كاملًا، بالطبع يحتاج الأمر إلى شجاعة وقوة ومواجهة، ونتفهم جميعًا أن هذا لا يأتى بين يوم وليلة، ويحتاج إلى غضب شديد، وقد يكون هذا الغضب هو وقود التمرد التدريجى، فإن الاستسلام يغرى البعض بالتمادى، لكن الاستسلام فى الوقت نفسه قد يتحول إلى تراكم غضب مكتوم ويكون مرشحًا للانفجار فى أى لحظة، وهو بالفعل ما حدث فى إيران ويحدث فى أفغانستان التى ما زال نساؤها وفتياتها لديهن أمل كبير فى العيش بحرية.