رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المستضعفون فى الأرض

عندما بعث الله محمدًا بالحق نبيًا، كان المستضعفون من عبيد وموالى مكة أول من سارع إلى الإيمان به وتأييده، والتضحية من أجل الرسالة التى جاء بها. فقد مثّل الإسلام بالنسبة لهم ملاذًا وبابًا للخروج مما يعيشونه فى مكة من تهميش، وإهانة، وإهدار للكرامة، وعدم الاعتراف بآدميتهم، كما شكلت الرسالة، بالنسبة لهم، مخرجًا من حالة الضلال العقائدى الذى كان يسيطر على المجتمع المكى، ويتناقض مع الموروث الدينى الحضارى داخل البيئات التى وفدوا منها أو الثقافات التى تربوا فيها. ولعلك تعلم أن أغلب المستضعفين كانوا من العبيد والموالى الذين وعدتهم الرسالة بالخلاص: «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا فى الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين».

ربما كان «الخلاص الفردى» هو الدافع الأول وراء إيمان «المستضعفين» بمحمد، صلى الله عليه وسلم، فقد سمعوا منه خطابًا يشتمل على رؤى وأفكار لم يسبق لهم الاستماع إلى مثلها فى مكة. سمعوا كلامًا عن المساواة بين العبد والحر، والأبيض والأسود، وكلامًا عن الحق والعدل والإحسان، وكلامًا عن كرامة الإنسان: «ولقد كرمنا بنى آدم وحملناهم فى البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا». فالكل لآدم، وآدم من تراب. كان من الطبيعى أن يجد هذا الكلام صدى لدى النفوس المتعبة المنسحقة، ويرون فيه خلاصًا فرديًا من الظلم والاستعباد الذى يعانونه مع طبقة الحكم والثروة داخل المجتمع المكى، لكنهم تعلموا فيما بعد أن خلاص الجماعة الإنسانية هو البوابة الطبيعية للخلاص الفردى، وأن دور المؤمن هو الدفاع عن المستضعفين فى الأرض، وأن سبيل الله هو سبيل المستضعفين: «وما لكم لا تقاتلون فى سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليًا واجعل لنا من لدنك نصيرًا».

التفاف المستضعفين حول النبى خلال الفترة الأولى للبعثة كان محل سخرية الكبار داخل المجتمع المكى، مثلما كان من قبل محل سخرية كبار قوم نوح، حين توجهوا إلى «نبى الطوفان» قائلين: «وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادى الرأى». نظر مشركو مكة إلى محمد فأبصروا الجالسين حوله من مستضعفى مكة: بلال بن رباح، وخباب بن الأرت، وعامر بن فهيرة، وعمار بن ياسر، وصهيب بن سنان، وأبوفكيهة، ومن النساء: لبيبة جارية بنى مؤمل، وزنيرة، وكانت لبنى عدى، والنهدية، مولاة لبنى نهد، وأم عميس جارية بنى زهرة. كان هؤلاء مجموعة من العبيد والموالى المدهوسين من الكبار داخل مكة، ويظن ملّاكهم أنهم يمسكون فى أيديهم بدينهم ودنياهم، وحياتهم ومماتهم. 

كانت طبقة الحكم والثروة تمر على النبى وهو جالس مع المستضعفين من المؤمنين فيهزأون بهم ويقول بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون. أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى ودين الحق؟. لو كان ما جاء به محمد خيرًا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا.. فأنزل الله عز وجل فيهم: «ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شىء وما من حسابك عليهم من شىء فتطردهم فتكون من الظالمين وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين».

سبق المستضعفون إلى الإسلام، ولم يكن لهم عشائر تمنعهم أو أدوات قوة يدافعون بها عن أنفسهم، وتحول دون وصول أذى الكفار إليهم. بادرت كل قبيلة إلى تثبيت من فيها من مستضعفى المسلمين، فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب، والجوع، والعطش، والحرق بالنار أو فوق لهيب رمال مكة، ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من يتصلب فى دينه ويعصمه الله منهم. عن ابن مسعود قال: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فمنعه الله بعمه، وأبوبكر منعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم فى الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالًا، فإنه هانت عليه نفسه فى الله تعالى، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به فى شعاب مكة وهو يقول أحد أحد.

لا يتساوى البشر فى القدرة على احتمال ألم العذاب، وقد كان عذاب المكيين للمستضعفين عظيمًا. لجأ بعضهم مثل خباب بن الأرت إلى النبى وقال له: يا رسول الله ادع لنا، فرد عليه: «إنكم لتعجلون»، ثم استطرد: «لقد كان الرجل ممن كان قبلكم يمشط بأمشاط الحديد ويشق بالمنشار فلا يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر». إنهم فى النهاية بشر لهم طاقتهم على الاحتمال، لكن النبى صاحب رسالة ويعلم أن كل تغيير له ثمن يدفعه المؤمنون به، لذلك كان يحفزهم على المزيد من التحمل، ويدعوهم إلى الصبر عليه. واحد فقط من هؤلاء هو من صبر وتحمل وأبى أن ينكر إيمانه ولو باللسان هو بلال بن رباح، وضعف آخرون أمام العذاب فأعلنوا الشرك بلسانهم وقلبهم مطمئن بالإيمان، مثل عمار بن ياسر، فى حين ترك خمسة منهم الأمر كله، وعادوا إلى ما كانوا عليه من شرك، ويذكر «ابن كثير» من هؤلاء الخمسة : أبوقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبوقيس بن الفاكه بن المغيرة. وفى هؤلاء نزلت الآية الكريمة التى تقول: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمى أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين فى الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا».

مثّل المستضعفون حائط الصد الأول أمام الهجمة التى شنها مجتمع الشرك المكى على الإسلام، وكان لهم الفضل الأول فى وضع بذرة الإيمان داخل الجزيرة العربية، ومنها إلى العالم. قضى بعضهم نحبه وهو يدافع عن إيمانه فى عصر النبى، صلى الله عليه وسلم، ومنهم من واصل التمسك بما آمن به من فهم لعقيدة الإسلام الداعية إلى الحرية، والمساواة، والعدل بين البشر، ونبذ العنصرية أيًا كان نوعها أو مصدرها، وذلك بعد رحيل النبى عن الحياة، ودافع عن فهمه هذا للعقيدة، واستشهد فى سبيل ما آمن به، أو ظل يدافع عنها حتى لقى ربه راضيًا مرضيًا.