رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مسرح شوقى بين عمود الشعر والدراما

تتأكد لى يومًا بعد يوم قناعتى الخاصة بأن تحول بعض الشعراء العرب من كتابة الشعر العمودى إلى كتابة شعر التفعيلة لم يكن قفزة عروضية فى الهواء، بل كان محاولة لجذب القصيدة العربية من غنائيتها المفرطة، المتمثلة فى تكرار عدد ثابت من الوحدات الموسيقية «التفعيلات» فى كل بيت، وتكرار قافية ثابتة فى نهاية كل أبيات القصيدة، إلى ساحة الدرامية الأكثر عمقًا ورحابة.

فقد نتجت عن ذلك القالب العمودى عدة مشكلات فنية منها عدم تطابق نقطة الوقف الدلالى مع نقطة الوقف العروضى؛ فأحيانًا ينتهى المعنى الذى يريد الشاعر التعبير عنه، دون أن تكتمل تفاعيل البيت الشعرى، فيضطر إلى إكمال البيت بما يضعف المعنى. وقد يحدث العكس أيضًا، فتنتهى تفعيلات البيت قبل أن يكتمل المعنى الذى يريد الشاعر التعبير عنه، ويظل المعنى معلقًا دون اكتمال دلالى أو نحوى إلا فى البيت التالى، مثل قول الشاعر:

قالت بنات العم يا سلمى وإن

كان فقيرًا معدمًا، قالت وإن

أما حرية الحركة فى القالب الجديد، فلا يلتزم فيها الشاعر بتكرار ثابت لعدد التفعيلات، فقد حل السطر الشعرى مكان البيت، وأصبح من حق الشاعر أن يكتب سطورًا شعرية طويلة مرة وقصيرة أخرى وفقًا لدفقته الشعورية. فهو يلتزم بوحدة التفعيلة فقط فى القصيدة، دون التزام بعدد مرات تكرارها فى كل سطر. كما أصبح الشاعر غير ملتزم أيضًا بتكرار قافية واحدة رتيبة فى نهاية كل سطر شعرى.

ولهذا أعتقد أيضًا أن الاستغلال الأمثل لإمكانات الشكل الشعرى الجديد قد تمثل فى كتابة المسرح الشعرى. وهذا يقودنا بالتبعية إلى ملاحظة أن مشكلة كتابة المسرح الشعرى تتفاقم بصورة أكبر لدى الشاعر العمودى، نظرًا لصعوبة توافق الأبيات الشعرية مع حرارة الحوار المسرحى، ومع سرعة انتقال الحديث من شخصية لأخرى، ومع المتطلبات الدرامية للمسرح عمومًا، فماذا فعل شوقى لحل هذه المعضلة الفنية؟

بعد أن أنهى شوقى دراسته للحقوق بجامعة مونبلييه عام ١٨٩٣، حيث أقام عامين بفرنسا التى أوفده إليها الخديو توفيق على نفقته الخاصة، بقى شوقى بباريس أربعة أشهر إضافية لدراسة الأدب الفرنسى، وبخاصة المسرح. وقد أشار بيرم إلى هذه الفترة وأهميتها بحياته فى رثائه له، حيث قال:

تسأل باريس عن غيابك

وإنت عارف جوابها

دى مكتبك فى شبابك

وملعبك فى شبابها

وقد كان من نتيجة تلك الفترة كتابة شوقى لمسرحيته الأولى «على بك الكبير» خلال إقامته بفرنسا، لكنه قد عدل عن نشرها لأنه رأى أنها أقل من المستوى المطلوب مسرحيًا.

وبعد نفى شوقى إلى إسبانيا عام ١٩١٤ أتيحت له فرصة أخرى للاتصال بالأدب الغربى عمومًا والمسرحى خصوصًا حتى عودته إلى الوطن مرة أخرى عام ١٩٢٠. وقد أحدثت هذه الفترة طفرة فنية كبيرة فى إبداع شوقى، حتى إن طه حسين، وهو من كبار منتقديه فى حياته، قد قال عنه فى كتابه حافظ وشوقى المنشور عام ١٩٣٣: «بعد عودة شوقى من منفاه تحول تحولًا خطيرًا حقًا، لا نكاد نعرف له نظيرًا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه إلى أدبنا العربى». وهو يرى أن هذا التحول قد تمثل فى تحرره من التقيد بالظروف السياسية، وفى أنه «فجأة قد استكشف نفسه، وإذا هو شاعر قد خُلق ليكون مجددًا، وأدخل فى اللغة العربية، وفى الشعر العربى خاصة، فنًا جديدًا لم يسبقه إليه أحد، وهو فن الشعر التمثيلى».

وقد اهتم شوقى فور عودته بكتابة القصائد أولًا حتى بويع أميرًا للشعراء عام ١٩٢٧، فأخلص بعدها مباشرة للمسرح الشعرى، وأطلق فى العام نفسه مسرحيته الأولى نشرًا «مصرع كليوباترا»، ثم توالت باقى مسرحياته الشعرية بين عامى ١٩٣١ و١٩٣٢ وهو تاريخ وفاته: مجنون ليلى، قمبيز، على بك الكبير «بعد تعديلها»، عنترة، الست هدى، البخيلة. والمسرحيتان الأخيرتان مسرحيتان كوميديتان.

وليس أدل على عشق أمير الشعراء للمسرح فى ذاته، من كتابته مسرحيته أميرة الأندلس نثرًا لا شعرًا. كما ليس أدل على إدراكه لدوره فى الريادة المسرحية العربية، من قوله فى إهداء أول مسرحيته نشرها وهى مصرع كليوباترا، للأمير فاروق قبل أن يصبح ملكًا:

وقصص مستحدث فى الضاد

يؤلف التمثيل بالإنشاد

فى وطن على الفنون غادى

مسرحه كان بلا عماد

ويتضح من التمهيد الذى قدم به شوقى للمنظر الأول أنه مبدع مسرحى كبير يدرك ما يفعله، فقد قسم شخصيات المسرحية إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول يحمل عنوان شخصيات تاريخية، ويضم «كليوباترا وأنطونيو وأكتافيوس وقيصرون». والقسم الثانى يحمل عنوان «شخصيات موضوعة» أى شخصيات اخترعها الكاتب لتساعده فى صناعة الدراما، ويضم ١٦ شخصية محددة الأسماء بين وصيفات وأمين مكتبة الإسكندرية ومساعديه والكاهن ومضحك الملكة وغيرهم.

وبالمقارنة بين القسمين نكتشف أن عدد الشخصيات التاريخية فى المسرحية يمثل ٢٠٪ فقط من عدد شخصياتها، مما يشير إلى أمرين فى غاية الأهمية؛ الأول: إن إبداع شوقى الجديد حتى على مستوى شخصيات المسرحية يصل إلى ٨٠٪، أى أن شوقى لم يتخف فى عباءة التاريخ للاعتماد على قصة جاهزة مسبقًا، لأنه جديد فى مجال الكتابة المسرحية كما ظن بعضهم. أما الأمر الثانى: فيتمثل فى إدراك شوقى المبكر لحرفية توظيف التراث حتى لو كان تاريخًا، فبإمكان المبدع أن يحذف منه أو يضيف إليه ما يريد وفقًا لرؤيته المعاصرة، التى لا يحاسب إلا على مدى نجاحه فى التعبير عنها وفقًا لعناصره التى اختارها، وهو ما لا يعيه بعض المبدعين والنقاد أيضًا حتى الآن.

أما القسم الثالث والأخير من الشخصيات فيحمل عنوان «النكرات المسرحية» وهو يضم «جنودًا وقوادًا مصريين ورومانيين. راقصات. عازفين». وتشير هذه التسمية مرة أخرى إلى إدراك شوقى العميق لطبيعة المسرح، فهذه الشخصيات يجسدها ممثلون نعم، وهم يساهمون فى التشكيل البصرى والحركى والسمعى للعرض نعم، ولهذا فوجودهم مهم. لكنهم لا يساهمون فى دفع الأحداث إلى الأمام لأنهم غير مشاركين فى الفعل الدرامى، ولذلك فهم بلا أسماء، وأقرب ما يكونون إلى قطع الديكور أو الدمى الراقصة أو الآلات الموسيقية، ولكل ما سبق كانت تسمية شوقى العبقرية لهم بالنكرات المسرحية.

ويدل افتتاح المسرحية على خبرة شوقى العميقة بمقتضيات المسرح، فمن أصعب ما يواجه الكاتب المسرحى كيفية بداية مسرحيته بصورة فنية غير مباشرة تمنح المتلقى المعلومات الدرامية الأولية عن المكان والزمان والأحداث، بصورة تسمح له بفهم ومتابعة الأحداث الدرامية التى ستبدأ على الفور. فبوسع الروائى مثلًا أن يذكر كل هذا بسهولة بالغة فى بداية النص، أما الكاتب المسرحى فلا. حتى وإن فعل فمن أجل القارئ، أما مشاهد العرض فلن يقرأ ما كتب، وعليه أن يبحث فى كل مرة عن حل فنى مناسب لطبيعة مسرحيته، يقوم بهذا الدور التعريفى على خشبة المسرح هنا والآن.

يصدّر شوقى مسرحيته بإشارة عرض نثرية للمخرج، يقول فيها: «فى مكتبة قصر كليوباترا، حابى وديون وليسياس جلوس إلى عملهم، يُسمع جماعة من العامة خارج القصر ينشدون هذا النشيد».

فقد حدد شوقى الفضاء البصرى متمثلًا فى المكان/ المكتبة، والممثلين الموجودين فوق الخشبة/ حابى وديون وليسياس مساعدى أمين المكتبة، والتموضع الجسدى لهم/ يجلسون للعمل، والفضاء الصوتى متمثلًا فى نوعية المغنين «جماعة من العامة» أى أنه على المخرج اختيار أصوات عادية تؤدى النشيد بصورة أقرب إلى الإلقاء الحماسى منها إلى الطرب. أما النشيد نفسه الذى سيستمع إليه المشاهد، فهو الذى سيقدم الحل الفنى للمشكلة الأزلية، حيث يقول شوقى:

يومنا فى أكتيوما/ ذكره فى الأرض سار

اسألوا أسطول روما/ هل أذقناه الدمار؟

أحرز الأسطول نصرا/ هز أعطاف الديار

شرفا أسطول مصرا/ حزت غايات الفخار

صارت الإسكندرية/ هى فى البحر المنار

ولها تاج البرية/ ولها عرش البحار

فعلى مستوى الدراما قدم شوقى فى كل مقطع من النشيد السابق معلومة درامية، بحيث يصبح المشاهد مع نهايته مدركًا تمامًا لكل جوانب الموقف، وقادرًا على متابعة الأحداث القادمة.

فهو فى المقطع الأول يحدد لنا أن هذا المشهد يدور فى أعقاب موقعة «أكتيوما» البحرية «الأسطول». وإذا كان المشاهد لا يعرفها فهو يعلن له عن طرف المعركة الأول «روما»، الذى يقرر النشيد أنه قد خرج مهزومًا منها. أما المقطع الثانى فيحدد البلد المنتصر وهو «مصر». قبل أن يضيف المقطع الثالث تحديدًا أدق للموقع متمثلًا فى «الإسكندرية»، ويوضح للمشاهد نتائج المعركة المتمثلة فى سيطرة الأسطول المصرى على مياه البحر الأبيض المتوسط.

أما على المستوى العروضى فقد اختار شوقى لنشيد المفتتح بحر الرمل وتفعيلته الرئيسية هى «فاعلاتن»، وهو أكثر بحر اعتمدت عليه الأغانى فى تاريخ الشعر العربى، وقد استخدمه مجزوءًا حيث تتكرر تفعيلاته مرتين فقط فى كل شطرة بدلًا من ثلاث مرات للسهولة والخفة، كما حذف متحركًا وساكنًا من تفعيلة القافية لتصبح (فاعلن) فقط، لكسر رتابة التكرار. كما أضاف ألف مد قبل قافية الراء الساكنة، لمطاوعة الغناء وسلاسته.

وقد بدأ الصراع الدرامى فى مسرحية شوقى منذ اللحظة الأولى، فالمفروض أن تلك المعلومات التى تلقاها المشاهد فى المفتتح، يتعامل معها بوصفها حقائق درامية فى العرض. لكنه سرعان ما يشاهد تكذيبًا فوريًا لما استمع إليه على لسان حابى، حيث يقول لديون:

اسمع الشعب (ديون).. كيف يوحون إليه

ملأ الجو هتافا.. بحياتى قاتليه

أثر البهتان فيه .. وانطلى الزور عليه

يا له من ببغاء.. عقله فى أذنيه

حيث يصرح حابى لصديقه «وللجمهور أيضًا» بأن ما استمعنا إليه للتو هو معلومات مغلوطة وليس حقائق دامغة، ولكنه تزييف وعى مقصود ومتعمد لتحويل أنطونيو وكليوباترا من قائدين مهزومين قاتلين لطموح الشعب المصرى وأحلامه، إلى قائدين منتصرين يتغنى الشعب باسمهما.

وقد تجلت براعة شوقى الشعرية فى صياغته للمقطع على نفس الوزن، لأنه تعليق على الكلام السابق، مع استخدامه لقافية مختلفة نظرًا لاختلاف الرؤية المطروحة فى نتيجة المعركة. أما اختياره للقافية المقيدة المتمثلة فى الياء الساكنة التى تعقبها هاء ساكنة أيضًا، فيحوّل انطلاق ألف المد فى الغناء المستبشر بالمقطع السابق، إلى صمت خانق مطبق من هول المفارقة وصدمة الهزيمة.

حيث يشتعل الصراع الدرامى بين الحقيقة والكذب منذ اللحظة الأولى، ويتوه الجمهور فى دوامة البحث عنها بنفسه فى سياق العرض أيضًا، وهنا يأتى رد ديون مؤكدًا وجهة نظر حابى:

حابى، سمعت كما سمعت وراعنى

أن الرمية تحتفى بالرامى

هتفوا بمن شرب الطلا فى تاجهم

وأصار عرشهم فراش غرام

ومشى على تاريخهم مستهزءا

ولو استطاع مشى على الأهرام

ففى سياق الحجاج الدرامى يؤكد كلام ديون وجهة نظر حابى فى تزييف وعى الشعب، وأن الأسطول المصرى لم ينتصر فى المعركة، مما يرجح بداية احتمال تصديق الجمهور لوجهة نظرهما، وبخاصة أنهما يؤكدان فى بقية الحوار رؤيتهما مصادفة لعودة الأسطول ليلًا متفرقًا محطمًا. لكن المتلقى يظل فى انتظار المزيد من الأدلة لترجيح أحد الرأيين.

كما أن الفقرة السابقة تقدم فى الوقت نفسه معلومة درامية جديدة تخص العلاقة الغرامية بين أنطونيو القائد الرومانى وكليوباترا الملكة المصرية، ولكنها تقدمها من خلال وجهة نظر سياسية ترفض هذه العلاقة.

فقد قدم شوقى فى المنظر الأول ثلاثة خطوط درامية تعمق القضية الرئيسية فى مسرحيته، وهى «الصراع بين العاطفة والواجب»، وقد ظهرت وفقًا للترتيب التالى.

الخط الأول: يتمثل فى العلاقة العاطفية بين حابى وهيلانة وصيفة كليوباترا التى تبادله الحب، لكنها ترفض موقفه السياسى المعادى للملكة من باب الواجب الذى تفرضه عليها وظيفتها. كما يظهر من الحوار التالى، عندما جاءت الوصيفة إلى المكتبة، لتطلب من حابى إخبار مديرها بقدوم الملكة:

حابى: سيدتى سأفعلُ/ أمركما ممتثلُ

هيلانة: تقرننى بربتى!/ ذلك ما لا أقبلُ

حابى: هيلان، أنت مليكتى/ وأنت وحدك الملك

هيلانة: بل كليوباترا وحدها/ لم يحو شمسين الفلك

إن أنت لم تؤمن بها/ فلست لى ولست لك

أما الخط الثانى: فيتمثل فى علاقة عاطفية من طرف واحد بين «زينون» الشيخ العجوز مدير المكتبة وكليوباترا الملكة الشابة، وقد حاول إخفاء هذا الحب فى البداية لكنه لم يستطع، كما يظهر بالحوار التالى:

زينون (غاضبًا): أتعلم يا غلام علىّ عشقا؟/

حابى: دع الإنكار قد برح الخفاءُ

زينون: ومن أنباك؟

حابى: أنت!

زينون: وكيف؟

حابى: تهذى/ فتفضحك الوساوس والهُذاءُ

ولا يمكن أن نترك هذا المقطع دون الإشارة إلى عبقرية شوقى فى تطويع عمود الشعر من أجل الدراما. فالحوار الشعرى هنا موزون على بحر الوافر «مفاعلتن مفاعلتن فعولن» فى كل شطرة من شطرتى البيت.

ففى بداية احتدام الحوار الذى قدم فيه شوقى للممثل إشارة عرض توضح طبيعة الأداء المطلوب منه متمثلًا فى كلمة «غاضبًا»، اكتفى شوقى بتقسيم البيت الشعرى على شخصيتين، زينون شطرة وحابى أخرى.

وعندما احتدم النقاش، قسم شوقى الشطرة الأولى فقط من البيت الثانى إلى أربع جمل، حيث جاءت عروضيًا على النحو التالى: «مفاعيلن مـ» «فاع» «لتن فـ» «عولن». إن تجديد شوقى المدهش هنا قد تجاوز بإبداعه حدود التطور العروضى فى شعر التفعيلة نفسه، حيث يُسمح فى هذا البحر نظريًا بتكرار تفعيلة «مفاعلتن» الكاملة فقط، عدد متفاوت من المرات فى كل سطر شعرى، دون تقطيع التفعلية الواحدة نفسها فى أكثر من سطر شعرى.

ونعود إلى قضية صراع العاطفة والواجب فى عشق زينون لكليوباترا، حيث اعترف فى نهاية الحوار السابق بأنه يسيطر على كل جوارحه. لكن كل هذا العشق لم يمنعه من واجب الموافقة على الانضمام لذلك التنظيم الشبابى السرى الذى يعمل من أجل مصلحة مصر ضد الهيمنة الرومانية، كما يظهر من الحوار التالى الذى بدأه شوقى بإشارة عرض توضح نوع الحركة المطلوبة من الممثل:

حابى: (مشيرًا إلى ديون وليسياس)

أخى هذا أثينى/ وخلى ذاك مقدونى

كلا الخلين للحق/ كما أدعوه يدعونى

كلا الخلين ذو جد/ بأرض النيل مدفون

فليسا فى هوى مصر/ وفى طاعتها دونى

ولم نصبر على حكم/ لرومية ملعون

ولسنا حزب أوكتاف/ ولسنا حزب أنطون

ولا نخضع للبأس/ ولا نُخدع باللين

ولم يبق على الود/ لروما غير زينون

زينون: معاذ الله، عدونى/ من العصبة عدونى

كساك الله يا روما/ لباس الذل والهون

ولولا شخصيات شوقى المخترعة لخدمة الدراما، لما تمكن من صناعة الخطين العاطفيين الأول والثانى، لدعم الخط الدرامى الثالث.

أما الخط الثالث: فهو الخط التاريخى الرئيسى فى المسرحية، والمتمثل فى العلاقة العاطفية بين كليوباترا وأنطونيو، والتى لم تمنعها من أداء الواجب نحو وطنها مصر، ولو على حساب حبها.

حيث تستمع كليوباترا أثناء ذهابها للمكتبة إلى هتاف الشعب السابق لها، فتتساءل عن سبب هذا الهتاف على الرغم من هزيمة الأسطول، حيث تقول:

يا لإفك الرجال! ماذا أذاعوا/ كذب ما رووا صراح لعمرى

أى نصر لقيت حتى أقاموا/ ألسن الناس فى مديحى وشكرى

ظفر فى فم الأمانى حلو/ ليت منه لنا قُلامة ظُفر

وغدا يعلم الحقيقة قومى/ ليس شىء على الشعوب بسر

وهنا تعترف لها وصيفتها «شرميون» بأنها هى التى أمرت بترميم الأسطول وتزيينه، والترويج لفكرة الانتصار الكاذب بالمعركة خوفًا عليها ومحبة لها. وعندئذ تنبرى كليوباترا لرواية حقيقة ما حدث فى المعركة، وكيف أنها عندما رأت احتدام الحرب بين أنطونيو وأكتافيوس وتحطم البوارج الرومانية، قررت الانسحاب بالأسطول المصرى من المعركة، ليصبح له السيادة وحده على البحر المتوسط بعد انتهاء الحرب، حيث تقول:

فنسيت الهوى ونصرة أنطونيوس/ حتى غدرته شر غدر

علم الله قد خذلت حبيبى/ وأبا صبيتى وعونى وذخرى

والذى ضيع العروش وضحى/ فى سبيلى بألف قُطر وقُطر

موقف يعجب العلا كنت فيه/ بنت مصر وكنت ملكة مصر

حيث انتصرت كليوباترا للواجب الوطنى على حساب العاطفة. كما تمكن المشاهدون من معرفة حقيقة ما حدث فى المعركة، لتثبيت هذه المعلومة فى أذهانهم بوصفها حقيقة درامية يمكنهم الرجوع إليها فى أى وقت، حتى يتمكنوا من فهم وتفسير الأحداث القادمة بالمسرحية.

كل هذا الزخم من حرفية الكتابة المسرحية بالمنظر الأول فقط من مسرحية شوقى الأولى، ولهذا يظل أمير الشعراء هو صاحب أفضل مسرح شعرى عمودى يراعى خصوصية الكتابة المسرحية ومتطلباتها حتى الآن، على الرغم من أنه رائده التاريخى الأول.