رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

زيارة لميدان العتبة

لظروف ما قمت بزيارة لميدان العتبة بالأمس، كانت هذه أكثر زياراتى للميدان إثارة للحزن والسبب غريب جدًا.. بدأت الدولة فى تطوير واجهات العمارات وإعادتها إلى رونقها الأصلى.. عندما تم هذا بدت المفارقة صارخة بين جمال العمارات وقبح ما يدور فى الميدان الذى تطل عليه.. بدت كل عمارة وكل مبنى من مبانى الميدان وكأنه تحفة رائعة ترتكز على قاعدة من الوحل والعفن والقبح.. تناقض كبير بين كيف كنا وكيف أصبحنا.. ميدان العتبة هو سرة القاهرة الخديوية.. بنى فى عهد الخديو إسماعيل الذى جعل القاهرة عن حق قطعة من أوروبا وجعل بعض شوارعها أجمل من شوارع باريس التى درس فيها الهندسة وعرف قيمة الجمال.. الميدان يضم أبنية الخدمات الأساسية التى تشكلت حولها المدينة الحديثة المسرح القومى، المطافى، البوستة، السوق التجارية المسقوفة والمنظمة، العمارات ذات الطرز الجميلة والنادرة والتى أصبحت مع الوقت ثروة فى حد ذاتها.. مع قيام ثورة يوليو وخروج الأجانب من مصر زحف المصريون لوسط البلد التى كان يقال إنها كانت مغلقة على الأجانب فقط.. ربما كانت هناك إرادة سياسية تدعم هذا بهدف التمصير وأن يشعر الشعب أنه استرد بلده من الأجانب.. هدف جميل جدًا لو أننا حافظنا على المبانى والعمارات والميادين كما هى وقمنا بصيانتها.. وقتها كنا سنثبت جدارتنا بأن نسترد ممتلكات بنيت على أرضنا ونرى أنها حق لنا.. ما حدث أنه مع توالى العقود وزيادة عدد السكان وتنوع الأنشطة وفساد المحليات ورخاوة قبضة الدولة تحولت هذه المنطقة الرائعة إلى سوق عشوائية لكل شىء وأى شىء.. أشخاص يفترشون منتصف الطريق ببضائع لا شهادات منشأ لها ولا دليل على أنها غير مهربة أو مطابقة لأى مواصفات صحية.. اعتداء علنى على الطريق العام فى مسافات واسعة تشمل ميدان العتبة وكل الشوارع المتفرعة منه.. العتبة أصلًا منطقة تجارية يتخصص كل شارع فيها فى تجارة معينة.. فى هذا الشارع توجد محلات مرخصة فيها تجار محترمون.. وهؤلاء لا يتسببون فى أى مشكلة سوى فى الزحام وهذه مشكلة يمكن حلها.. المشكلة أنه أمام كل تاجر يعمل بشكل منظم يوجد عشرات يفرشون بضاعتهم فى منتصف الشارع ويسرقون الكهرباء من الكابلات العمومية ولا يدفعون الضرائب ولا يمكن أن تسترجع البضاعة التى اشتريتها منهم سوى بقوة النبوت إن استطعت والأهم أنهم يشوهون أهم منطقة تاريخية وسياحية فى مصر.. أعرف بالطبع أن ظاهرة الباعة الجائلين لها أبعاد اجتماعية واقتصادية وأمنية.. وأنها مصدر رزق لبضع مئات من الأسر.. وأن هؤلاء يقدمون بضاعة رخيصة بالمقارنة بالمحلات التى تدفع ضرائب وتكلفة تشغيل أعلى.. ولكننى أفهم أيضًا أننا نشوه ميدانًا يمكن أن يتحول لمنجم ذهب.. لقد استثمرت الدولة ثمانية تريليونات جنيه فى مشاريع تطوير مصر وتنميتها فهل كثير عليها تكلفة إعادة تأهيل هؤلاء الباعة ودمجهم كعمالة فى مشاريع الدولة المختلفة؟؟ لا أظن طبعًا.. لقد كان هؤلاء الباعة منذ ثمانى سنوات يحتلون شارع طلعت حرب من العتبة حتى التحرير وعندما شاءت الدولة أن يختفوا اختفوا بالفعل.. فلا أحد يستطيع أن يتحدى قوة الدولة إذا شاءت تنفيذ القانون.. ولا بد من دراسة اجتماعية وأمنية واقتصادية عاجلة تضع توصيات تتكفل بإنهاء هذا المظهر غير الحضارى.. ميدان العتبة والقاهرة الخديوية كلها منجم ذهب سياحى من الدرجة الأولى.. وبعض المدن التى تدعى العراقة مثل «استانبول» مثلًا ليس لديها أكثر مما لدينا.. لكنهم استطاعوا تسويق ما لديهم رغم أن القاهرة هى الأجمل والأكثر عراقة وتنوعًا وتطورًا.. لا بد من نقل الباعة الجائلين والبلطجية من هذا الميدان الجميل والأروع فى مصر.. ولا بد بعدها من تغيير طبيعة الأنشطة فى المحلات التجارية به وحوله لتصبح أنشطة سياحية وثقافية فى المقام الأول.. إن الذين ليس لهم تاريخ يشترون التاريخ ونحن نهين تاريخنا أو نسكت على إهانته.. إن عمر ميدان العتبة أقدم بكثير من كثير من الدول فى المنطقة وهذا لا يعنى أى إساءة لهذه الدول التى تسعى لاستكمال أسباب نهضتها وتحقيق رخاء شعوبها.. إننى أظن أنه لم يعد لدينا وقت لنضيعه.. فنحن نحتاج كل دولار إضافى يمكن أن يدخل لنا من السياحة ولا شىء يمكن أن يعزز فرص القاهرة السياحية أكثر من إبراز طابعها التاريخى وإجلاء المعتدين على شوارعها وميادينها بالقوة المسلحة إذا لزم الأمر.. إن عمارات هذا الميدان الأروع لا تحتاج سوى لاستثمارات بسيطة جدًا كى تتحول لفنادق ذات درجات متباينة يسكن فيها من يقدرون التاريخ ويحبون الطرز المعمارية القديمة وهم أكثر مما نتخيل ونظن فى دول العالم المختلفة.. لا بد من شركة مساهمة تؤسسها الدولة وتفتح فيها الباب لشراكة القطاع الخاص لتطوير هذه المنطقة فورًا وهى تقريبًا لا تحتاج سوى إلى إزالة الاعتداءات وغسل وجهها الجميل ليظهر حسنها وجمالها الذى لا يملكه كثير من المدن فى العالم.. إن القاهرة لا يمكن أن تكون مدينة سياحية إذا لم يكن بإمكان السائحين والسائحات النزول إلى أهم ميادينها والعودة بسلام.. فهل يستطيع السائحون ذلك حاليًا؟ للأسف لا.. ولا أقول هذا بدافع المزايدة ولكن بدافع الغيرة على بلدى والرغبة فى أن أراها فى المكانة التى تستحقها بعد عقود من التفريط والإهمال.. أنا أعرف بالتأكيد أن خطة تطوير القاهرة من الملامح الرئيسية لرؤية سيادة الرئيس لتطوير مصر لكننى أقول إننا يجب أن نبدأ الآن وفورًا، وأن نحل مشكلة الباعة الجائلين مرة واحدة وإلى الأبد، وأن نعيد التفكير فى الأبنية القبيحة التى بنيت فى الثمانينيات مثل جراج العتبة ذى الطراز الفقير والواجهة القبيحة ومثل الزاوية الصفيح الملاصقة للمسرح القومى دون تخطيط ودون أن تكون من مبانى الميدان الأصلية، ومثل كوبرى الأزهر المعدنى الذى يشوه فراغ الميدان.. لا بد من إعادة تخطيط المنطقة كلها وصولًا للأزهر والحسين.. الآن الآن وليس غدًا.. فنحن أولى بكل دولار نستطيع كسبه من السياحة وعلينا ألا ننتظر يومًا واحدًا بعد الآن.