رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«نائب» الصدفة

تذهب المؤلفات التى صنفت طبقات صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى أن «الحكم بن عمرو الغفارى» ينتمى إلى الطبقة الأولى من الصحابة والتابعين، لكنك لا تستطيع أن تظفر بشىء حول تفاصيل هذه الصحبة، اللهم إلا بعض الأحاديث الضعيفة، تتعلق بكلام نقله عن نهى النبى، صلى الله عليه وسلم، عن أكل لحم الحمر، وهى مسألة اختلف معه فيها الصحابى «ابن عباس». يبدو من اسم الحكم أنه ينتمى بشكل مباشر إلى قبيلة غفار، لكن المسألة ليست كذلك فهو فى الأصل ينتمى إلى قبيلة «بنى ثعيلة»، وثعيلة هذا كان شقيق غفار الجد الأكبر للقبيلة التى تناسل منها الغفاريون، ومنهم أبو ذر، رضى الله عنه، ويبدو أن «بنى ثعيلة» كانوا يفخرون بنسبهم الغفارى أكثر، فلقب الحكم بن عمرو بـ«الغفارى».

الظهور الحقيقى للحكم بن عمرو على مسرح الأحداث جاء فى العصر الأموى، لكنه جاء بصدفة إنسانية شديدة العجب، ويصح أن تصفها بـ«القديمة المتجددة». يحكى «ابن الأثير» أن زياد بن أبيه القائد الأموى الشهير نادى حاجبه ذات يوم وطلب منه استدعاء «الحكم»، يقصد «الحكم بن أبى العاص»، والحكم بن أبى العاص- كما تعلم- أموى عتيد، وهو والد مروان بن الحكم وجد أبنائه وأحفاده ممن تناوبوا الجلوس على كرسى الخلافة الأموى. خرج الحاجب فلقى فى طريقه الحكم بن عمرو الغفارى فاستدعاه لمقابلة القائد، ظنًا منه أنه المقصود بالدعوة، رآه زياد وفهم ما حدث، فقال له: ما أردتك ولكن الله أرادك!، فجعله نائبًا له على «خراسان». يعنى تستطيع أن تقول إنه عُين نائبًا بالصدفة البحتة. 

أثبت الحكم بن عمرو كفاءة كبرى بعد توليه نيابة خراسان، حيث تمكن من الزحف نحو «طخارستان» وضمها إلى حكمه، وفعل الشىء نفسه فى جبال الغور، وضمها إليه. وغنم فى الحالتين مغانم كثيرة كانت سببًا فى أن يفقد حياته، بصورة شديدة الدرامية. فقد كان الساكن فى قصر الحكم الأموى «معاوية» يريد الاستئثار بكل شىء لنفسه. وصلت رسالة إلى الحكم بن عمرو من قائده زياد بن أبيه، وقد علم ما غنمه من مغانم جمة، يطلب فيها منه أن يصطفى كل صفراء أو بيضاء، يعنى الذهب والفضة، ليجمع هذا كله وينقله إلى بيت المال. وفى رواية أخرى قدمها «ابن الأثير» أشار إلى أن زيادًا كتب إلى الحكم بن عمرو: إن أمير المؤمنين معاوية أمرنى أن أصطفى له الصفراء والبيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبًا ولا فضة. ويعنى ذلك محاولة من جانب كتاب التراث لتبرئة معاوية من الطمع فى المغانم، عبر الإشارة إلى أن الرسالة تضمنت نقل الذهب والفضة إلى بيت المال، لكن «ابن الأثير» كان صريحًا فى الحديث عن أن المنقولات الثمينة ستوضع بين يدى معاوية نفسه. وفى كل الأحوال من المفهوم أن بيت المال يعمل بأوامر مباشرة من الجالس على كرسى الخلافة فى الشام. 

لم يقبل الحكم بن عمرو بهذه القسمة الجائرة التى يحرم فيها «معاوية» الجنود من حقهم فى ثمرة جهدهم، ليستأثر بها لنفسه، استشار من حوله، فذكّره أحدهم بأن آية «المغانم» بالقرآن الكريم حددت الأمر من قبل، فما كان من «الحكم» إلا أن عزل الخُمس كما أمر الله ورسوله، ثم كتب يرد على «زياد بن أبيه»: إن كتاب الله مقدم على كتاب أمير المؤمنين، وإنه والله لو كانت السموات والأرض على عدو، فاتقى الله يجعل له مخرجًا، ثم نادى فى الناس أن اغدوا على قسم غنيمتكم فقسمها بينهم، وخالف زيادًا فيما كتب إليه عن معاوية. رد «الحكم» كان حاسمًا وصارمًا، وهو ما أزعج زيادًا كل الإزعاج، ناهيك عن إزعاجه لمعاوية. وربما تذكر أن الأول ولّى هذا الرجل نيابة خراسان بالصدفة البحتة، وأنه كان يقصد حين أمر حاجبه بأن يأتى له بالحكم: «الحكم بن العاص» وليس الحكم بن عمرو الغفارى، لكن الصدفة حكمت، فقرر «زياد بن أبيه» الانتقام منه.

يذهب ابن كثير فى «البداية والنهاية» وابن الأثير فى «الكامل فى التاريخ» واليعقوبى فى «تاريخه» إلى أن «الحكم بن عمرو» بعد انقلاب معاوية وزياد ضده، بسبب إصراره على عدم الاستجابة لمطامعهم، وسحق حق الناس فى الامتلاك مثلما يمتلكون، توضأ وصلى ثم قال: اللهم إن كان لى عندك خير فاقبضنى إليك. فتوفى بـ«مرو». الله تعالى على كل شىء قدير، وربما يكون ذلك قد حدث، إلا أن ثمة رواية أخرى تحكى قصة وفاته حكاها «شمس الدين الذهبى فى كتابه: «سير أعلام النبلاء» تقول إن معاوية أرسل إلى الحكم بن عمرو مَن قيده وحبسه، فأسرّ إلى بعض خلصائه وهو مقيد فى الحبس بوصية يوصيهم فيها بدفنه فى قيوده إذا مات فى محبسه هذا. وقد حدث أن مات ونفذ أتباعه نصيحته ودفنوه وهو على تلك الحال. ويستطرد «الذهبى» مشيرًا إلى أن عمران بن حصين التقى ذات يوم الحكم بن عمرو وقد استبدت به الحيرة فى التصرف الأوجب مع معاوية وزياد حين وصلته الأوامر بأن يرسل بالذهب والفضة إلى قصر الحكم فى الشام، سمع عمران القصة فقال له: أما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق» فقال الحكم: بلى. قال: إنما أردت أن أذكرك هذا الحديث.

رفض الحكم بن عمرو الغفارى تنفيذ ما رأى فيه مخالفة لآية قاطعة الدلالة فى القرآن الكريم، ودفع حياته ثمنًا لذلك، وانتهى أمره كما حكيت لك، وكان فى باطن الصدفة السعيدة التى دفعت به إلى الصفوف الأمامية مهلكه.