رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صاحب الوصية

تتعجب وأنت تتابع سيرة الصحابى الجليل الأرقم بن أبى الأرقم من ندرة ما جاء عنه من أخبار فى كتب السيرة والتراث، رغم الدور الخطير الذى لعبه فى خدمة الإسلام مبدأ ظهور دعوة النبى، صلى الله عليه وسلم. ربما كانت داره التى سكنها عند «الصفا» أكثر شهرة منه. فهى الدار التى مثّلت مقرًا أساسيًا للنبى ولمن آمن معه خلال السنوات الأولى للدعوة، وكانت تمثل المقر المنافس لـ«دار الندوة» التى دأب كبار مشركى مكة على الاجتماع فيها للبت فى أمورهم، منذ أن بناها الجد الأكبر للعرب «قصى بن كلاب». داخل دار «الأرقم» وضع النبى، صلى الله عليه وسلم، خططه فى حماية أوائل المؤمنين وعتقهم من تعذيب مشركى مكة لهم، خصوصًا فيما يتعلق بالهجرتين الأولى ثم الثانية إلى الحبشة، ثم الهجرة إلى يثرب، فى المقابل كانت «دار الندوة» مسرحًا لإنتاج خطط مواجهة الدعوة المحمدية ومحاصرتها، بما فى ذلك التخطيط لاغتيال النبى قبل ساعات من هجرته إلى المدينة. 

عجيب أن تشتهر الدار أكثر من صاحبها، رغم سابقته الواضحة إلى الدخول فى الإسلام والدور المهم الذى قام به إلى جوار النبى. فقد كان «الأرقم»، واسمه عبد مناف بن أسد بن عبدالله المخزومى وكنيته أبو عبدالله- من السابقين الأولين إلى الإسلام، وقيل كان ثانى عشر، وكان من المهاجرين الأولين، وشهد بدرًا وأعطاه النبى من غنائمها سيفًا، واستعمله على الصدقات، وهو الذى استخفى رسول الله فى داره لما خاف المشركين. موقع مبجل إذن احتله الأرقم، وأدوار خطيرة لعبها فى بداية الدعوة إلى الإسلام، كما أن الرجل عاش طويلًا حتى تجاوز الثمانين ببضع سنوات، كما يُجمع الكثير من الروايات، ورغم ذلك لم يهتم المؤرخون لصحابة النبى بذكر أخباره أو أدواره بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.

بل إن تاريخ واقعة وفاته، رضى الله عنه، كان محل خلاف كبير بين المؤرخين، وثمة فجوة زمنية واسعة بين روايتين يمكن تقرؤهما فى هذا المقام. تقول الرواية الأولى إنه توفى يوم مات أبوبكر الصديق سنة ١٣ هجرية، وتشير الرواية الثانية إلى أنه توفى سنة ٥٣ وقيل ٥٥ هجرية. وأغلب الظن أن الرواية الثانية هى الأرجح، وأنه مات فى عصر معاوية بن أبى سفيان. العمر المديد الذى عاشه «الأرقم» يثير من جديد سؤالًا حول أسلوب تعامل المؤرخين مع سيرته، وإهمال أخباره خلال المدة التى تقع ما بين واقعة ظهوره فى بدايات البعثة، وحادثة وفاته.

ربما تبادر إلى ذهن البعض أنها السياسة وما يترتب عليها من آليات نفى أو إقصاء أو تلوين فى رسم صور الصحابة الذين عاصروا الصراع الذى نشب بين على وبنيه من ناحية ومعاوية وبنى أمية من ناحية أخرى بعد اغتيال «عثمان»، لكن لا يوجد فى كتب التراث ما يشير إلى أن الأرقم بن أبى الأرقم انحاز إلى فريق على أو فريق معاوية خلال هذا الصراع، وبالتالى لم يكن له موقف محدد يجعل أحد الفريقين يغضب عليه. فقد كان «الأرقم» من زهاد المسلمين، حبب الله إليه الصلاة، خصوصًا فى المساجد المقدسة. وهناك حديثان مرويان عن الرجل موضوعهما الصلاة، مما يعنى أنها كانت أكثر ما يهمه، ويتعلق الحديث الأول بتخطى رقاب الناس فى صلاة الجمعة، أما الثانى فيتصل بموقف عاشه مع النبى، صلى الله عليه وسلم، حين تجهز للسفر ذات يوم يريد بيت المقدس، فلما فرغ من جهازه جاء إلى النبى، صلى الله عليه وسلم، يودعه، فقال: ما يخرجك أحاجة أم تجارة؟ قال: لا يا رسول الله بأبى أنت وأمى، ولكنى أريد الصلاة فى بيت المقدس، فقال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: صلاة فى مسجدى هذا خير من ألف صلاة فيما سواه.

لم يكن للأرقم بن أبى الأرقم موقف منحاز إلى على بن أبى طالب وبنيه أو إلى معاوية وبنى أمية يبرر إقصاء أخباره أو نفيها، لكن يبدو أن السلطة التى آلت إلى معاوية وبنيه لم ترض بالمواقف المحايدة. تستطيع أن تستنتج أن «الأرقم» كان من ذلك الفريق المحايد الذى قرر اعتزال الفتنة من مراجعة عدد من الوقائع التى ارتبطت بمسألة دفنه بعد وفاته فى عصر معاوية. كان «الأرقم» قد أوصى قبل أن يموت بأن يصلى عليه سعد بن أبى وقاص. وقد أراد ولده عبيد الله تنفيذ وصيته، وكان سعد حينذاك بالعقيق، فتدخل مروان بن الحكم «الأموى» وقال: يحبس صاحب رسول الله لرجل غائب؟ ونادى للصلاة عليه، غضب عبيد الله غضبًا شديدًا وأبى عليه ذلك، وثار معه أيضًا أفراد عائلة «الأرقم» من بنى مخزوم، الذين كانوا يحملون لواء الحرب داخل قبيلة قريش فى الماضى، هنالك تراجع مروان، وتركهم ينتظرون حتى وصل سعد بن أبى وقاص وصلى عليه.

من أشهر المواقف التى ارتبطت بسيرة سعد بن أبى وقاص موقفه من الفتنة الكبرى، حين قرر اعتزال الصراع الذى نشب بين على ومعاوية، وعندما سأله الناس لماذا لا تقاتل؟ أجاب بمقولته الشهيرة: لا أقاتل حتى تأتونى بسيف فيقول: هذا مؤمن وهذا كافر. تزعّم سعد حركة يمكن وصفها بحركة «معتزلى الفتنة»، ورغم أن كتب التاريخ لا تشير إلى أن الأرقم كان من بين أعضاء هذه الحركة، إلا أنك تستطيع أن تستنتج أنه كان ضمن من اعتزلوا الفتنة مع ابن أبى وقاص، وإلا لماذا أوصى بأن يصلى الرجل عليه حين يموت، ولماذا أصر ابنه وقومه من بنى مخزوم على رفض أن يصلى عليه الأموى «مروان بن الحكم» وأن ينتظروا قدوم سعد؟.

الموقف الحيادى الذى اتخذه «الأرقم» يمثل فى الأغلب السبب فى حالة الإقصاء العجيب لأخباره فى كتب التراث. فالسلطة الأموية بعد تربعها على كرسى الملك لم تكتف بمعاقبة مَن انحازوا ضدها فى الصراع، بل عاقبت أيضًا من وقفوا على الحياد، ومارست معهم نوعًا من الاغتيال المعنوى، تمامًا مثلما حدث مع الأرقم بن أبى الأرقم.. ولله فى الحكام المتغلبين من الملوك والأمراء شئون، أى شئون.