رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أكثر من خمسين عامًا

سعدت بأن أشارك فى فعاليات الاحتفال بمرور خمسين عامًا على بدء العلاقات المصرية الإماراتية، وهى علاقات «تاريخية» بالمعنى العلمى وليس على سبيل المبالغة أو التهويل، إن جذور هذه العلاقات تعود للأب المؤسس الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وهو حكيم وقائد آمن بالوحدة العربية وأسس تجربة الوحدة العربية الوحيدة التى نجحت فى الاستمرار وتخطى العوائق والمؤامرات، وكان من الطبيعى أن يحب الشيخ زايد مصر التى عاصرها وهى تخطو جاهدة نحو حلم الوحدة العربية فترهقها المتاعب والصعاب وتحول بينها وبين تحقيق الحلم الذى نجح حكيم العرب فى تحقيقه فى نطاقه المباشر وبأفضل طريقة ممكنة، وما إن تأتى ساعة العبور حتى يجد حكيم العرب الفرصة للتعبير عن حبه لمصر فيقف مع إخوانه العرب داعمًا ومساندًا لسلاح البترول ويقول قولته الخالدة: «البترول العربى ليس أغلى من الدم العربى»، والأكثر من هذا أن هذا الرجل العروبى أرسل ابنه وولى عهده الشيخ سلطان بن زايد، رحمه الله، ليشارك مع قوة إماراتية رمزية مع الجيش المصرى فى العمليات القتالية على الجبهة.. وقد كان التعليم إحدى طرق التواصل بين مصر والإمارات العربية المتحدة سواء قبل إعلان الوحدة أو بعد وحدتها، فالعلاقات لم تبدأ مع إعلان دولة الوحدة الإماراتية ولكن قبلها بسنوات، حيث وفد عدد من نوابغ الإماراتيين للدراسة فى جامعات مصر فى الستينيات كان منهم السيد محمد السويدى الذى تولى منصب وزير خارجية الإمارات لفترة طويلة، والشيخ سلطان القاسمى حاكم الشارقة الذى كان طالبًا فى كلية الزراعة وزميلًا لعادل إمام وصلاح السعدنى فى فريق المسرح، والسيد محمد المر الكاتب والمثقف ومدير مكتبة دبى.. وغيرهم عشرات من رجال الحكم والدولة فى الإمارات اختار الشيخ زايد أن يرسلهم لمصر منذ الستينيات ليجهزهم كرجال حكم فى دولته التى كان يرسى دعائمها، حيث كانت مصر تمد يدها منذ الخمسينيات لإمارات الخليج العربى وتقدم لها العون التعليمى والسياسى لتدير علاقتها بالاستعمار البريطانى الذى كان يلملم أوراقه ويرحل.. لقد أدرك حكيم العرب زايد بن سلطان أن مصر هى درع أمان للإمارات، وأنها كبلد كبير فى المنطقة خير حليف لهذا البلد الاتحادى الواعد، فلجأ إلى الخبرات المصرية يستعين بها فى شتى المجالات وعهد لمجموعة من كبار الصحفيين المصريين بتأسيس صحيفة «الاتحاد» الإماراتية لتكون لسان حال الدولة، حيث قاد هذه المجموعة الصحفى الكبير مصطفى شردى ومعه الكاتبان الكبيران جمال بدوى، وعباس الطرابيلى، وقد أصبحوا جميعًا من نجوم الصحافة المصرية ورموزها فيما بعد، وقد أدرك الشيخ زايد أن التضامن مع مصر هو وسيلة لحماية الأمن القومى العربى، فلم يبخل بمد يد العون لتعمير مدن القناة بعد انتهاء الحرب، وردت له مصر الجميل بإطلاق اسمه على أحياء كاملة فى الإسماعيلية وغيرها من المدن التى ساهم فى تعميرها، وهو الأمر الذى تكرر فى التسعينيات حيث تبرع حكيم العرب لبناء مساكن للشباب فى المدينة التى حملت اسمه فى محافظة الجيزة وتوسعت ونمت وظلت تحمل اسمه على كل أحيائها لا على المشروع الذى تبرع لدعمه فقط، عرفانًا ووفاء له على كرمه ووعيه بمعنى استقرار مصر وضرورة ازدهارها، بل إن أحد المصريين قد تبرع لإقامة تمثال للشيخ زايد فى مدخل المدينة التى تحمل اسمه عرفانًا ووفاء لهذا الرجل الذى أحبه المصريون، والذى استعان بخبراء القوات المسلحة المصرية فى وضع اللبنات الأولى لجيش الإمارات العربية المتحدة مؤمنًا بأن أمن الإمارات هو أمن مصر، وقد انتقل هذا الحب المتبادل لأنجال الشيخ زايد سمو الشيخ سلطان بن زايد، رحمه الله، وسمو الشيخ محمد بن زايد الرئيس الحالى لدولة الإمارات، وقد بادلهم الرئيس السيسى حبًا بحب وتقديرًا بتقدير، حيث كان قبل توليه الرئاسة فى موقع يسمح له بأن يعرف عمق العلاقات بين البلدين وأهميتها لاستقرار كليهما، وهو الأمر الذى زاد منه وعى سمو الشيخ محمد بن زايد بخطر الجماعات الإرهابية على استقرار الوطن العربى كله وعلى صورة الإسلام فى العالم، وموقف الإمارات المساند بلا حدود لثورة الثلاثين من يونيو وضغطها الدبلوماسى القوى لمنع مخططات حصار مصر وعقابها على إطاحتها بحكم الجماعة الإرهابية، والمساعدات العاجلة التى قدمتها لحل أزمة الوقود وغيرها من الأزمات التى كانت قد وصلت إلى ذروتها فى حكم الإخوان، وقد بدأ البلدان منذ سنوات فى لون جديد من التعاون يقوم على الاستثمارات المشتركة، وعبّر هذا الاتجاه عن نفسه فى تأسيس شراكة صناعية تضم مصر والإمارات والأردن باستثمارات قيمتها عشرة مليارات دولار، وهو اتجاه يستجيب لتحديات الواقع واحتياجات كل البلاد لتأمين سلاسل الإمداد الخاصة بها فى ضوء الحرب الثالثة العالمية التى تجرى وقائعها حاليًا، وإن كان الواقع يفرض أن يتم تسريع الإنجاز فى هذا المشروع العملاق بما يتيح زيادة الاستثمارات فيه، حيث تحمل كل البلاد المشاركة فيه فرصًا واعدة للتطور الصناعى من حيث السوق الضخمة التى تتميز بها مصر وإمكانات التمويل العملاقة للإمارات، والموقع الهام للأردن، وبالتالى فإن سباق الوقت لإنجاز هذا المشروع هو وغيره من الشراكات الاقتصادية يبدو هو خير تدعيم لهذه العلاقات التاريخية، خاصة مع اتجاه دول الخليج العربى بشكل عام لتنويع قنوات استثمارها، وعدم قصرها على بنوك الغرب فقط كما كان الحال منذ عقدين من الزمان، ولقد صرح وزير الاقتصاد الإماراتى بأن حجم استثمارات الإمارات فى مصر بلغ ٢٧ مليار دولار وهو رقم ليس قليلًا ولكنه أيضًا لا يرضى طموح هذه العلاقة المميزة والخاصة، وهو ما يجعلنا نحلم بأن يتضاعف مرة أو مرتين على الأقل خلال الوقت القادم الذى يشهد وفرة فى الاستثمارات الإماراتية فى الخارج وظرفًا اقتصاديًا متقلبًا ينعكس على العالم كله.. تحية محبة صادقة للشعب الإماراتى المحب لمصر، وللحكومة الإماراتية الحريصة على دعم أواصر المحبة بين البلدين، ولمصر الكبيرة التى تعرف دومًا دورها تجاه أشقائها وتطمئنهم بشعار «مسافة السكة».