رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرئيس يواصل صراحته

كعادته دائمًا كان الرئيس بالأمس متدفقًا، وصادقًا، وتلقائيًا، يعرض حجته بوضوح، ويكشف الحقائق ببساطة، ويصنع الأخبار وهو يمزح مع حضور المؤتمر، فقد كشف عن ميزانية قناة السويس، وأنها تتراوح ما بين سبعين وثمانين مليار جنيه حصيلة إيرادات عامين فقط بعد تسديد دين حفر القناة الموازية والجديدة، وكشف عن أرباح شركة العاصمة الإدارية وأنها ثمانون مليار جنيه، بعضها عاجل وبعضها مؤجل، وكشف عن تكلفة تطوير ميناءى السخنة وأبوقير وأنها وصلت إلى سبعين مليار جنيه، وشرح منهجه فى اللجوء إلى الجيش كمارد طيب يخدم الشعب المصرى هربًا من عجز البيروقراطية ومشاكلها المتراكمة، وشرح طبيعته كمسلم صوفى من أهل الحسين يستعين بالله على قضاء حوائجه ولا يرى أن علاقة العبد بربه هى علاقة قسر أو إجبار، وكشف عن تحديات الواقع التى تختلف تمامًا عن الكلام النظرى مع كل الاحترام للأفكار النظرية وقيمتها، وقد كرر هذا مرتين، مرة يوم افتتاح المؤتمر عندما طلب شهادة السيد محمود فوزى، وزير الصناعة، عن الفارق بين نظرته للأمور وهو على البر عضوًا فى مجلس النواب، ورؤيته الأمور عندما نزل البحر وأصبح مسئولًا فى الحكومة.. وقد قال الرجل إن الفارق شاسع، ثم كررها الرئيس عندما قال مازحًا إن التوصيات موجودة فى مناهج كلية الاقتصاد، ولكن التحدى هو فى كيفية تنفيذها فى الواقع، وكرر الرئيس حديثه عن دعوات متواصلة وجهها للقطاع الخاص كى يسهم باستثماراته فى خطط التنمية المختلفة سواء فى الزراعة أو تطوير الموانئ أو غيرهما من المجالات المختلفة، وهى دعوة وشكوى سبقه إليها الرئيس جمال عبدالناصر وقادت إلى قرارات مختلفة فى ظرف عالمى مختلف، لكن الرئيس السيسى رأى أن الحل فى مزيد من الدعوات والتشجيع للقطاع الخاص، وأقر كل ما توصل إليه المؤتمر من توصيات، وأوصى بتشكيل أمانة دائمة له، تتابع تنفيذ التوصيات، وتطرح ما يستجد من مشاكل، وتكون بمثابة واسطة بين الدولة والقطاع الخاص، تحدث الرئيس بصراحة عن الفارق بين لحظة اتخاذه القرار بإنقاذ البلاد من الإخوان وانبهار الناس بشجاعته إلى حد رأوه معها أيقونة لا يجب أن تمس، وبين محاسبته كرئيس على كل خطايا الوضع الاقتصادى ومسبباته التى تراكمت عبر ستين عامًا أو أكثر وعبر أزمة اقتصادية عالمية أثرت على العالم كله وليس على مصر فقط، واصل الرئيس كشفه عن طبيعته كمصلح يحلم بإصلاح مجتمعه وليس كرئيس موظف، فشرح كيف فكر فى إصلاح حال الأسر المصرية اعتقادًا منه أن المواطن لن ينتج ما دام غير مستقر أسريًا، وكيف جابه مزايدة من بعض المؤسسات والأشخاص لمجرد الحساسية الشخصية، وهو جانب من معاناة الرئيس وعمله، لا يعرف الناس عنه شيئًا لأنهم لا يهتمون سوى بما يصب فى جيوبهم بشكل مباشر ولا يهتم معظمهم بالجهود التى تبذل لإصلاح الأفكار أو الوضع الاجتماعى أو الثقافة، رغم أن كل هذا يشكل البنية التحتية لبناء إنسان صالح للعمل والإنتاج، يستطيع أن يسعد نفسه، ويسعد من حوله، لقد بدأ الرئيس الحوار الوطنى بالفعل دون انتظار جلسات إجرائية، ودعا بشجاعة لمؤتمر يناقش علاقة الأديان بقضايا المجتمع يتسع فيه المجال لجميع وجهات النظر، بل إنه طالب باستضافة الشباب المعارض ليسمع منه ويجيب عليه ويستوعبه.. وهى شجاعة ما بعدها شجاعة، وسياسة ما بعدها سياسة، وأبوة ما بعدها أبوة، تقول إن الرئيس يريد أن يأخذ جميع المصريين فى يده كأسرة واحدة ويعبر بهم نحو المستقبل.. فأهلًا وسهلًا بالحوار وبالدعوة وبالتجديد. 

معنى الإفراج عن زياد العليمى ورفاقه

تعلمنا فى الصحافة أن لكل خبر معنى، لكل حدث تفسيرًا، لكل واقعة تحليلًا يقول لك لماذا حدثت وما معناها، إن الأحداث لا تحدث لمجرد سد الفراغ فى نشرات الأخبار وصفحات الصحف ولكنها تحدث لأن هناك إرادة قامت بها، وحتمية تاريخية فرضتها وفق منهج صانع القرار.. فى ضوء هذه الخلفية يمكن قراءة الإفراج عن المحامى زياد العليمى وزملاء له قبله وربما آخرين بعده وفق مؤشرات كثيرة تقول إن جهود لجنة العفو مستمرة، إن كل الأخبار لها علاقة ببعضها البعض، فالإفراج جزء من فعاليات الحوار الوطنى، والحوار الوطنى هو الأخ التوأم للمؤتمر الاقتصادى وكلاهما يكمل بعضهما البعض، وقائمة من حضروا من قادة الأحزاب المؤتمر الاقتصادى تكمل قائمة من شاركوا فى أمانة الحوار الوطنى ولجانه المختلفة كمعبرين عن أصوات للمعارضة الوطنية، ومعنى هذا كله أننا ندخل فى مرحلة جديدة نسعى فيها لجبهة وطنية واحدة تتنوع فيها الأصوات ولكنها تتفق على الإيمان بهذا الوطن وضرورة تقدمه، إننى أقدم قراءتى الخاصة لهذه الحالة وذروتها بالأمس الإفراج عن زياد العليمى بأنها تعبير عن تحالف واسع بين مؤسسات الدولة الوطنية وبين كل من يعادى الإرهاب والفساد فى هذا الوطن ويقرر العمل على أرض مصر لا خارجها، إن ما يجمع مؤسسات الدولة الوطنية وفى قلبها الجيش والمعارضة الوطنية «الحقيقية» كثير لو تأملناه، فكلاهما لديه عداء حقيقى للتدخلات الخارجية بشتى صنوفها، وكلاهما لديه عداء للفساد واختلاط المال بالحكم وما ينتج عن ذلك من احتكار وآثار سلبية عاينها الجميع، وكلاهما معادٍ للإرهاب من حيث هو تعبير عن ثقافة متخلفة تعوق التقدم، ومن حيث هو متورط فى دماء المصريين، ومن حيث هو عميل بالفطرة لأى قوى أجنبية تستخدمه فى مقابل تحقيق حلمه المخبول وغير القابل للتحقق للأبد بإذن الله.. هذه هى نقاط الالتقاء بين الدولة الوطنية وبين فصائل المعارضة الوطنية كما أفهمها، وهى لا تنفى أن هناك اختلافًا، فالقوى المدنية فى مصر قوامها الحقيقى المثقفون الحالمون بغدٍ أفضل، وهم فى حلمهم هذا يبدون بعيدين بعض الشىء عن الواقع وتحدياته وما يفرضه من ممارسات على الأرض، فبعضهم يحلم بالأمان والاستقرار لكنه لا يعرف الثمن الذى تدفعه مؤسسات الدولة كى تحقق هذا الأمن ولا التحديات التى تخوضها ولا المواجهات التى تقوم بها، وبالتالى هو ينزعج إذا رأى جانبًا من هذه المواجهات ويشعر بالحيرة بين ما ينبغى وبين ما هو واقع وكأنه يريد من الطبيب أن يجرى عملية جراحية دون أن يستخدم المشرط أو يسيل الدماء، وبعضهم معادٍ للإرهاب لكنه يختاره فى تعريف الإرهاب والعناصر المتورطة فيه وما يجوز أو لا يجوز فى أوقات الحروب والمواجهات المسلحة فيقع فى المحظور، فقد يقبل محامٍ وطنى الدفاع عن عناصر من الجماعة الإرهابية مثلًا بحسن نية وهو غير منتبه أننا فى حالة حرب حقيقية معها ومع من يساندها من الخارج، فيقع فى المحظور دون أن يدرى، وتعقب ذلك إجراءات حادة يأسف لها الجميع لكنها تبدو وكأنها لا بد منها ولو لبعض الوقت ولحين انتهاء المواجهة المسلحة مع الإرهاب، وبعضهم قد يرى عناصر فاسدة تتقافز هنا وهناك وتدّعى أنها وثيقة الصلة بالدولة فيثور غضبه ويعتقد أن الدولة تحمى الفساد، والحقيقة أن الدولة لا تحمى فاسدًا ولكنها أيضًا لا تستطيع أن تمنع أحدًا من تأييدها ولا من معارضتها ما دام لم يخالف القانون، والحقيقة أن هذه الظواهر موجودة على مر العصور والعهود وأسبابها معروفة ومفهومة، والمعيار هو سلوك من يؤيد أو يعارض ونزاهته الشخصية والمالية واتساقه مع نفسه ومع أفكاره، لكن الدولة لا تتحمل مسئولية من يتحدث باسمها بكل تأكيد ولا تستطيع أن تمنع أحدًا من التأييد أو المعارضة وبالتالى فلا يجب على المعارضة الوطنية أن تحمّل الدولة مسئولية كراهيتها لهذا الشخص أو ذاك بسبب تاريخه ولكن عليها أن تقدم خطابها المعتدل والعملى والوطنى والقابل للتنفيذ لمصلحة الدولة وللشعب لا لأى شىء آخر، لقد كان التحالف بين المعارضة الوطنية ومؤسسات الدولة الصلبة والوطنية هو البديل الوحيد القادر على تغيير مصر منذ الثمانينيات وما بعدها لكنه القدر أخر تنفيذه كثيرًا، وهو اختيار بشّر به وتحدث عنه عدد من كبار الوطنيين المصريين منهم د. أحمد عبدالله رزة، المثقف الوطنى والباحث الكبير وزعيم الحركة الطلابية فى السبعينيات، وكان منهم بلا شك الأستاذ محمد حسنين هيكل الذى كان يعرف أن الجيش المصرى يبقى دائمًا هو الملاذ الأخير وعمود الخيمة للدولة المصرية، ثم كان هناك سبب آخر للموقف الذى يتخذه بعض رموز المعارضة المدنية وهو أن الناس أعداء ما جهلوا، وقد فرضت ظروف المواجهة مع الإرهاب أكبر قدر من السرية على المشروعات قبل تنفيذها، حيث كان الناس يفاجأون بانتهاء العمل فى مشروع ما دون أن يسمعوا عنه من قبل، أو يوضع له حجر أساس يبشر بانتهاء العمل فيه بعد سنوات! ولا شك أن هذا أحدث رد فعل مضادًا لدى فصائل المعارضة الوطنية وهى تقوم فى الأساس على مثقفين لديهم تفكير نقدى ورغبة فى المساهمة بوجهات نظر ورغبة فى الشعور بأن وجهات النظر هذه مقدرة، فضلًا عن خوفهم على بلدهم والذى لا ينازعهم أحد الحق فيه، كانت هذه بعض أسباب الجفاء وسوء التفاهم بين المعارضة غير المرتبطة بالأجنبى والإرهابى وبين بعض مؤسسات الدولة المصرية، وأظنها كلها زالت وأصبحت من الماضى الذى يتعلم منه الجميع ويصيغون من خبرة التعلم هذه ملامح المستقبل، هذا على المستوى الشخصى، أما على المستوى الخاص فأنا سعيد بزوال كرب أشخاص أحترمهم على المستوى الشخصى وتشكل معرفتهم جزءًا من تاريخ تفخر بكل مراحله، ولا يعكر فرحتى سوء تفاهم ظلل علاقتى ببعض هؤلاء الزملاء التاريخيين لأن سبب سوء التفاهم هو نفس موضوع هذا المقال، فقد أنعم الله علىّ منذ الشباب الباكر بنعمة قراءة المستقبل، فأدركت منذ عشرين عامًا أن الإصلاح لن يكون إلا على يد مؤسسات الدولة الوطنية المصرية وأنها اليد الوحيدة الأمينة القادرة على صون البلد من التدخل الأجنبى ومن الفساد ومن الإرهاب معًا، وربما لم يفهم البعض هذا المعنى فى ذلك الوقت المبكر، فكانت اجتهادات فى طرق خاطئة هنا وهناك، لكن الحقائق تفرض نفسها فى النهاية كطريق وحيد علينا أن نسير فيه مهما كان صعبًا، موقنين أننا سنصل فى نهايته ما دمنا نسير يدًا بيد وكتفًا بكتف وغايتنا هى مصر ولا أحد سواها.