رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هدف المؤتمر الاقتصادى

 

 

أحببت الفيلم التسجيلى الذى عُرض فى افتتاح المؤتمر الاقتصادى، أمس الأول، توقفت عند الجزء الذى يتحدث عن حال مصر قبل ثورة يوليو، أو حال معظم المصريين الذين لم يصلهم مليم واحد من عوائد النمو الاقتصادى فى القاهرة والإسكندرية، أنا من أنصار ثورة يوليو وعارفى قدرها منذ سن ستة عشر عامًا، ولا أظن أنى غيرت انحيازى عبر السنوات، لكنى أظن أننا فى حاجة للتفكير فى تاريخنا بطريقة أخرى أسميها الطريقة «التجميعية» أو «التوحيدية»، وهى تقوم على الاعتراف بفصل كل مرحلة وكل إضافة، دون التقليل من إنجازات المرحلة التى تليها، فالاقتصاد فى عهد أسرة محمد على كان قائمًا على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية بلغة هذه الأيام، وفتح البلد للجنسيات الأجنبية بما جعل القاهرة وقتها تقوم بدور قريب جدًا من الذى تقوم به دبى العالمية هذه الأيام، مع فارق طبيعة كل بلد وحجمه وتاريخه وقتها، ومع فارق غياب الوفرة النفطية، وقد أدخل الأجانب لمصر صناعات وفنونًا وحرفًا لم تكن تعرفها، وفى نفس الوقت أثاروا حساسية أبناء البلد لأسباب دينية ووطنية، كان منهم الصالحون ومنهم المغامرون ومنهم ما دون ذلك، وكان من آثار ثورة ١٩١٩ أن ظهرت نزعات تنادى بتمصير الاقتصاد أسفرت عن جيل من الصناعيين المصريين، منهم أحمد عبود وياسين وفرغلى وأبورجيلة، وقد كانت مشاريعهم المؤممة هى نواة القطاع العام الذى أضافت له ثورة يوليو مئات المصانع، إننى حين أنظر للتاريخ بأثر رجعى أتمنى لو أن الرئيس جمال عبدالناصر انخرط فى مشروعه العملاق لبناء القطاع العام من نقطة الصفر وترك هذه المصانع على حالها، كما كنت أتمنى لو أن الظروف لم تؤدِ لهجرة الأجانب المصريين كلهم، ولو اقتصر الرحيل على من يثبت أن له صلات ضارة بالبلد منهم، إننى أنطلق من الماضى إلى الحاضر لأقرأ توجه الدولة حاليًا فى إفساح المجال للقطاع الخاص ليمارس حقه فى العمل ودوره فى التنمية، وأقول إن نقطة البداية تكمن فى مصالحة اقتصادية وحوار فى الغرف المغلقة كما هو على منصات المؤتمر الاقتصادى، ذلك أن رجل المال بطبيعته يميل إلى الصفقة المحددة الواضحة التى يعرف فيها ماذا سيكسب قبل أن يقرر ماذا سيعطى، ولا أرى فى هذا عيبًا ما دام فى حدود القانون ونزاهة العمل، والتى أظن أنها أعظم مكاسب ثورة ٣٠ يونيو، إننى أخشى أن ما ساد مصر قبل يناير ٢٠١١ من تغول بعض رجال الأعمال واختلاط المال بالسياسة قد أدى إلى رد فعل عكسى أخذنا فيه العاطل مع الباطل، وحاربنا فيه الاستثناءات التى كان يحصل عليها البعض مع التسهيلات القانونية التى يجب أن يحصل عليها الجميع، وبالتالى فلا بد من وقفة للتأمل والتبيّن وإعادة تقييم الوضع كله، بما يضمن تجاور القوى الاقتصادية المختلفة، وبما يضمن ظهور مستثمرين جدد غير كلا الطرفين اللذين يتهمان بعضهما من طرف خفى باحتكار السوق، فرجال أعمال مبارك كانوا يمارسون أقسى أنواع الاحتكار والاستيلاء على الأراضى وخداع الضرائب والحصول على قروض دون ضمانات، وعندما ظهر من يقاوم هذا الاحتكار، اتهموه هو نفسه بالاحتكار، على طريقة «رمتنى بدائها وانسلت».. والحقيقة أن القطاع الخاص ليس فلانًا ولا فلانًا ممن يحتكرون الحديث باسم رجال الأعمال فى مصر.. لكنه عشرات الآلاف من المستثمرين الجادين الذين يجب إتاحة الفرصة للموهوبين منهم ليكبروا ويضيفوا وينجحوا، إن إدارة الأعمال موهبة مثلها مثل الغناء أو كتابة الشعر أو لعبة الكرة، وعلى المجتمع أن يبحث عمن يتمتعون بهذه الموهبة ويقدم لهم الدعم والتمويل، ليضيفوا للاقتصاد صناعات جديدة أو مشاريع جديدة توفر فرص العمل وتزيد الناتج القومى، وهى الفكرة التى انتبهت لها الدولة بتوفير حاضنة لرواد الأعمال، لكننى أقول إننا يجب أن نسرع فى هذه الفكرة وننفذها على الفور وبتوسع، وتحت رعاية الرئيس مباشرة، كى نضمن ألا تواجهها عقبات، إننى كمواطن أنتظر من المؤتمر الاقتصادى وما يليه من فعاليات أمرين.. أولهما الاستماع لصوت اتحادات وجمعيات المستثمرين الصناعيين والزراعيين تحديدًا، وثانيًا الخروج بتوصيات وإجراءات تقودنا إلى توفير كل الظروف للقطاع الخاص كى يعمل بكامل طاقته وكى تشارك جمعياته بالرأى فى صناعة القرار الاقتصادى، وأن نعلن عن ضمانات لإدارة اقتصاد السوق بقواعد اقتصاد السوق لا بأى قواعد أخرى، لقد توقفت كثيرًا أمام تصريح رئيس الوزراء حول إلغاء الاعتمادات المستندية قريبًا، وأرى أن هذا هو القرار الصحيح، وأظن أنه روشتة محافظ البنك المركزى لإصلاح الأوضاع، إننى مع أن يحصل رجال الأعمال على الدولارات بأى سعر مهما كان مرتفعًا ما دام ذلك سيضمن لهم استيراد مستلزمات الإنتاج، كما أننى مع تشجيع الصناعة المحلية لأقصى درجة، ولا أرى أن هذا يتناقض مع ذاك، فارتفاع سعر الدولار سيعطى ميزة رخص السعر للمنتج المحلى ويجعل المستورد غاليًا أكثر بعد انخفاض قيمة العملة، ولا يعنى تشجيع القطاع الخاص أن على الدولة أن تنسحب أو تتوقف عن النشاط الاقتصادى، على العكس، إن وثيقة ملكية الدولة تنظم هذا التجاور فى النشاط وتضمنه، إننى لا أستريح إلى تسمية بعض المشبوهين هنا وهناك للشركات التى تملكها الدولة بأنها «اقتصاد الجيش» وأسميها باسمها الصحيح وهو «اقتصاد الدولة»، فالجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية، بل هو العمود الفقرى لجسد الدولة المصرية، وعوائد هذه الشركات تستخدم فى مشاريع التنمية فى الدولة المصرية، وهى عندما تقتضى الظروف تطرح فى البورصة لتمثل دخلًا إضافيًا بالعملة الصعبة يسهم فى سداد التزامات المالية التى هى عبارة عن قروض استخدمت فى التنمية، وبالتالى فمن المطلوب لهذه الشركات أن تتوسع وتستمر ولكن بإدارة محترفة وعناصر مدنية، إن أولى قواعد طرح الشركات فى البورصة هى الفصل بين الإدارة والملكية، وبالتالى فإن علينا الاستمرار فى مسار ملكية الدولة لبعض الشركات مع إدارتها بقواعد السوق ووفق قوانينها، وأظن أن هذا يحدث فى قدر كبير من هذه الشركات، وأنه يحتاج فقط إلى إعلانه وترسيخه، وقد يقول قائل إن بعض رجال المال أدمنوا لعبة السلطة والتحكم، وإنهم يستغلون أى دعوة توجه لهم ليفكروا فى سيناريوهات الماضى القريب، حيث كان يختلط حابل المال بنابل السياسة، ولهؤلاء أقول إن قراءة المشهد تؤكد أن الدولة ترحب بالتسهيلات وترفض الاستثناءات أو الامتيازات الخاصة وبين الاثنين فارق كبير، أما إذا كان البعض يبحث عن مساحات أكثر ضمن قواعد اللعبة السياسية، فلا أظن أن هناك مانعًا من هذا، فالدولة قوية، وفى أقصى حالات استقرارها الأمنى، والحرب مع الإرهاب وضعت أوزارها أو كادت، وبالتالى فلا مانع من أن نغير قواعد السياسة التى سادت خلال السنوات الثمانى الماضية، فالقاعدة المستقرة أن الرئيس ومن خلفه مؤسسات الدولة يقودون العمل الوطنى بكفاءة عالية ومع القيادة تأتى المشاركة من كل الأطياف، والحوار البناء الذى يتحدث فيه الجميع، والمشاركة الاقتصادية وفرص الربح للجميع، ولا مانع من أن يكون للقطاع الخاص فى مصر منبر واثنان يعرض من خلالهما مشاكله، ما دام ذلك يتم دون ابتزاز للمسئولين، أو تشويه لهم، أو ضغط عليهم، أو تهديد للمسئول بالويل والثبور وعظائم الأمور إذا لم يستجب لطلب قدمه له رجل أعمال هنا أو هناك.. وهذه كلها ممارسات كنا نشاهدها يوميًا فى فترة من الفترات وأدت لرد فعل عكسى بعد ذلك، حيث لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى القوة ومضاد له فى الاتجاه.. وما زال لحديثنا بقية فى الغد بإذن الله.