رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة الإنسان من الميلاد إلى الموت فى «قارورة زرقاء»

شريف مليكة.
شريف مليكة.

فى ٢٤٤ صفحة من القطع المتوسط صدرت رواية «قارورة زرقاء» عن الهيئة المصرية العامة للكتاب للمؤلف شريف مليكة.

الرواية تدور أحداثها ما بين مصر والولايات المتحدة الامريكية وتناقش فى أبعاد ميتافيزيقية رحلة الجدة من العلاج للموت، لتقلصها فى قارورة زرقاء تحملها الحفيدة تمهيدًا لرميها فى النيل حسب وصية الجدة.

 

لكن المؤلف رصد عبر الرواية أبعادًا أخرى من خلال الحكاية، فقد تزامن الاحتفال بعيد ميلاد الجدة مع ذكرى ميلاد المسيح، وكأن الانسان يولد طفلًا فيكبر إلى زمن معين ليرجع طفلًا مرة أخرى، بنفس البراءة ونفس التجرد ونفس العزوف عن كل ملذات العالم.

يقول «مليكة» فى بداية روايته: «تتسرب الساعات والأيام من قبضة الزمن المحكمة، فتصنع معايش نحياها، نختال بها أحيانًا فنشعر بالزهو من ثراء منجزنا، أو بالخزى أحيانًا أخرى من عوز زمننا، لكننا لا نعى أبدًا أن هذا الحال أو ذاك ليس سوى ميزان ذرة سقطت هنا أو هناك فى خضم ذاك الكون العملاق، الذى نعجز غالبًا عن إدراك مقدار ضخامته، ومع ذلك نزعم كذبًا بأننا مقره ومركزه».

يأتى المرض ليجمع شمل الأسرة والأحبة مرة أخرى، وكأن المرض هنا وسيلة للوداع الأخير، جسر كبير يعبر عليه الأهل والأحباب للقاء الجدة، لفرحة الجدة، لدس ملامحها الأخيرة فى نفوسهم، لكن الجدة تترك الكل ينتظر على رصيف الحلم وتغادر فى رحلة أبدية نحو الموت.

الكثير من الشخوص التى تحفل بها الرواية كأساس لدوران الأحداث، وهى ٦ شخصيات تمثل العمود الفقرى للرواية، الجد والجدة والأم والأب والابن والابنة، لكن معظمهم يأتى فى إطار دس معرفة ما قديمة، أو تبنى رؤية جديدة للجد والجدة والأبناء وغيرهم.

ولم يغفل «مليكة» تقنية الفلاش باك ليرجع فى الزمن، ليحكى لنا كيف تعرف الجد على الجدة، وكيف بدأت علاقتهما وجمع بينهما الكتاب، وكيف كانت المحبة التى قوامها الصدق وانتهت بالزواج.

وبالرغم من اتجاه الرواية الواقعى، لكن «مليكة» يمنح الجدة قدرات أخرى، فبعد موتها الحتمى تستيقظ الجدة مرة أخرى لتملى رحلتها نحو الأبدية ورجوعها، لتحاول تذكر تلك الرحلة بما يضفى جوًا من القداسة على تفاصيل العمل، تحكى الجدة وتحكى وتجد الكلمات سبيلًا للخروج من سجن الجسد، معبرة عن تلك اللحظات التى عاشتها الجدة ما بين الحياة والموت، الحياة الأولى والحياة الأخرى.

ولم يغفل الكاتب الرجوع لحياة الجدة فى إريتريا، وكيف تكونت أصول شجرة عائلتها هناك، ومن خلال الأحداث وصلت للقاهرة وللمكتبة وللحب وللحياة، لكنها لم تتخل عن جذورها، ولم تنس تلك الرحلة الكبيرة للعائلة لتدسها فى مخيلتها، تتذكرها بين الحين والحين، وكان اتخاذها لصديقتها «فلفل» ربما هو نوع من الحنين أو محاولات العودة للجذور.

وأثناء رحلة البحث عن العلاج، يوضح لنا الكاتب تاريخ أصول الجدة القاهرية، وصداقتها القديمة لفتاة سمراء إفريقية «فلفل»، وهى يهودية من إريتريا، هاجرت عائلتها إلى مصر وراء التجارة، ومع حرب ١٩٦٧ تهاجر العائلة اليهودية هربًا من مستقبل غامض، وتفقد الجدة حبيبها حديث التخرج فى الحرب، فتكتئب وتهرب هى أيضًا مع صديقتها الوحيدة.

وعلى الرغم من البرد القارس تواصل العائلة السفر عبر القارة الأمريكية، رغم كثافة حركة المسافرين فى تلك الفترة، وتدفق الثلوج والجليد الذى يتسبب فى إغلاق المطارات، ويبذلون قصارى جهدهم من أجل الوصول قبل أن تموت الجدة من دون وداع، وفى هذه الأثناء، تقترب الجدة من حتفها بالفعل، وتموت لكنها تعود مجددًا للحياة، بعد أن اختبرت تجربة ما بعد الموت.. تفيق بعدها فى المستشفى فتسترجع كل التفاصيل التى شهدتها عبر رحلتها الميتافيزيقية تلك.

وأثناء استرجاع الجدة لرحلتها الميتافيزيقية بعد أن وصلت العائلة إلى مدينة «سانتا فى» أخيرًا، تلتقى الجد ونتعرف إلى شخصيته المميزة.. نشعر بفتور فى علاقة ابنته «الأم» به، تفسر لنا الأم أسباب انقطاع رابطات التواصل معه، وفى الصباح يتوجه الجميع إلى المستشفى للقاء الجدة هناك، يلتقون صديقتها «فلفل» وابنتها وحفيدتها، النساء الثلاث اللاتى أيضًا أتين للقاء الجدة وتوديعها.

وأثناء تواجد الجدة فى المستشفى تطلب من الأب أن يدون تجربتها عن الموت وما رأته فى «ما بعد الحياة»، لأنها اعتقدت أن عودتها كانت من أجل إقناع زوجها الجد الملحد العدمىّ بحقيقة وجود حياة بعد الموت، لعله يؤمن، وتعلن عن أن الأب أفضل من يستطيع كتابة رؤيتها لأنه يعمل بالصحافة، كما توصى ابنتها «الأم» بأن تُحرق جثتها بعد الموت، وأن تضع رماد رفاتها فى قارورة تحملها معها إلى مصر، وتلقى بها فى مياه النيل هناك فى أرض أجدادها.

وعندما توفيت الجدة نفذت الأم الوصية وكذلك الأب، إلا أن الظروف بينهما كانت قوية وتحول جائحة كورونا دون سفر الأم مع عائلتها إلى مصر، فتبقى تتأمل رفات أمها القابعة فى القارورة الزرقاء، منتظرة تحقيق مشيئتها.

واختتم الكاتب روايته بعبارة على غلاف الرواية وهى: «لمحت زجاجة العطر الباريسى التى ابتاعتها لأمها فى عيد ميلادها، لم تستخدم منها إلا ربعها أو أقل، فتحت غطاءها وشمتها، ضغطت قمتها الذهبية فنفثت رذاذها نحوها، ثم أعادت الغطاء من جديد، مسحت دمعها بظهر يدها، وفيما هى تعبث، إذا بشبح أمها يعبر من خلفها، وأطل وجهها الحانى لوهلة مبتسمًا، ثم اختفى، وكأن مرور طيف من الأطياف من الأشياء المعتادة قامت من مجلسها، وتوجهت نحو خزانة ملابسها، وفتحت ضلفتيها على مصراعيهما، ثم راحت تتأمل الفساتين المتدليات من أعناقهن فى يأس، تبكين فراقها، فاقتربت منهن فاتحة ذراعيها الممدودتين، ثم اقتربت أكثر واحتضنتهن جميعًا إليها، ونبست، وكأنها تهدهد».