رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العملاق النائم

تتعجب وأنت تقارن بين النموذج الإنسانى الذى قدمه أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب، رضى الله عنهما. أبوبكر رجل نحيف البنية يميل إلى العزلة والتفكير والتأمل، أما عمر فرجل متين البنية طويل القامة، أبيض البشرة، أصلع الرأس، يدب على الأرض دبًا حين يمشى، وعلى مستوى التركيبة النفسية كان عمر- خلافًا لأبى بكر- شديد الاندماج فى البيئة التى يعيش فيها، وقد ساعده على ذلك عدم الانخراط فى عمل معين قبل بعثة النبى، صلى الله عليه وسلم، فلا تستطيع أن تظفر وأنت تراجع كتب التراث بوظيفة أو مهنة معينة كان يعمل فيها عمر، وأشهرها فى ذلك الوقت أن يكون تاجرًا كما كان أبوبكر وبعض الصحابة، بل والنبى نفسه، كل ما ورد فى هذا السياق أنه عمل فى شبابه راعيًا للغنم مع أبيه. 

الأرجح أن عمر كان يعانى نوعًا من الفراغ قبل الإسلام دفعه إلى الاندماج الكامل فى المجتمع المكى قبل البعثة. وصاحب الفراغ بطبيعته شديد الولاء للقضايا التى يتبناها، فلا يصرفه عنها مشغلة ولا مسألة. وقد كان عمر كذلك. شرب الخمر فى الجاهلية وأغرم بها، ومارس عادة وأد البنات كما يفعل قومه، وانخرط فى أحاديث قومه عن الجن، وعندما بعث الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، أنكر دعوته، وقاومه مع كبار قومه بكل قوة، وشارك فى تعذيب المسلمين الأوائل الذين آمنوا برسالة محمد. ولعلك تذكر واقعة إسلامه والتى اقترنت بقرار اتخذه بقتل النبى حتى يريح قومه من صداع الدعوة الجديدة، فقابله وهو فى طريقه إلى مقر اجتماع النبى بصحابته بدار الأرقم بن أبى الأرقم «بيت عند الصفا» مَن حكى له أن أخته فاطمة وزوجها قد أسلما فذهب إليهما، واعتدى عليهما، حتى سمع منهما آيات من سورة طه، فرق قلبه لشقيقته وزوجها، وقرر الذهاب لمحمد، وأسلم على يديه.

فكرة الإيمان الآلى تلك من الأفكار العجيبة التى تجد نماذج وأمثلة عديدة عليها فى كتب التراث. فبمجرد أن يسمع الشخص كلام الله تعالى يلين قلبه ويهتز كيانه ويسارع إلى الإيمان. والحقيقة ليست كذلك، فالكثيرون استمعوا- مثل عمر- إلى القرآن المُنزل على النبى ورغم ذلك لم يؤمنوا. عندك المغيرة بن شعبة على سبيل المثال. وليس من المتصور أن يحدث هذا الانقلاب السريع فى موقف عمر بن الخطاب الابن المخلص لقيم المجتمع المكى الوثنى وعقائده وعاداته وتقاليده. السر فى إسلام عمر ارتبط بطبيعته الشخصية المندمجة بعمق فى الواقع نتيجة الإحساس العاتى بالفراغ، وهو ما كان يدفعه باستمرار إلى التركيز فيما يقع من حوله، والملاحظة العميقة لما يتفاعل فى الواقع.

لقد حكى عمر بن الخطاب نفسه قصة إسلامه، كما وردت فى البداية والنهاية لابن كثير، ولو أنك تأملتها فستجد فيها تلخيصًا لشخصية الرجل الذى كانت يعانى فراغًا يدفعه باستمرار إلى تدقيق الملاحظة فيما يقع من حوله. يشير «عمر» فى بداية القصة إلى أنه خرج ذات يوم ليشرب الخمر مع مجموعة من أصدقائه، فلم يجد منهم أحدًا، قرر الذهاب إلى خمارة لعله يجد غايته فيها، ذهب ولم يجد عند الخمّار خمرًا، قرر لحظتها الذهاب إلى الكعبة والطواف حولها، فطاف سبعًا أو سبعين- لم يحدد- وإذا به يرى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قائمًا يصلى وقد جعل وجهته إلى الشام، فأخذ يتلصص عليه ويسمع ما يتلو من قرآن حتى رق له قلبه، ثم قرر أن يتبعه، حتى أحس به النبى فدعاه، وسأله ما الذى أتى بك فأجابه: جئت لأؤمن بك.

ثمة جانب معبر عن طبيعة شخصية عمر بن الخطاب فى هذه القصة، وهو جانب الفراغ وتدقيق الملاحظة، لكنها لا تعكس ما كان عليه من ولاء لقيم المجتمع المكى وعقائده وعاداته وتقاليده، يصعب معها فكرة الإيمان المتعجل أو الدخول الآلى فى الإسلام. والواضح أن عمر كان يتابع محمدًا وأصحابه منذ فترة، وهو لم يسمع كلام الله تعالى من النبى، صلى الله عليه وسلم، أو من شقيقته وزوجها فقط، بل سمعه من كثيرين. وقبل إسلامه كان الرجل يفكر فيما يسمع ويراجع محتواه على الواقع المكى الذى يعيش فيه ويعرفه جيدًا، وقد بلغ به التفكير مبلغه، حين بدأت أفكار الإسلام تطارده حتى أثناء النوم. فقد نقل «ابن كثير» قصة عن عمر قال فيها: بينما كنت نائمًا عند آلهتهم- يقصد الأصنام- جاء رجل بعجل فذبحه، فصرخ به صارخ- لم أسمع صارخًا قط أشد صوتًا منه- يقول: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله، فوثب القوم فقلت لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا، ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح، رجل فصيح، يقول لا إله إلا الله فقمت، فما نشبنا أن قيل هذا نبى. تبدو القصة غير واقعية، والأرجح أنها كانت عبارة عن حلم أو منام رآه عمر، فالنداء كان موجهًا إليه بشكل أساسى «يا جليح»، وكان عمر جليحًا «أصلع»، وهو فى المجمل يعكس حالة الانشغال الكبير من جانب عمر بما تحمله الدعوة الجديدة من أفكار وقيم ومرتكزات، كان غارقًا فى التفكير فيها.

مسألة الاستغراق فى التفكير وطرح الأسئلة مثّلت بُعدًا مهمًا من أبعاد الشخصية الإنسانية لعمر بن الخطاب، حتى بعد دخوله الإسلام، يدل على ذلك ولعه بقراءة كل ما يقع فى يديه من أقوال السابقين. وقد أتى عمر النبى، صلى الله عليه وسلم، ذات يوم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه على النبى، صلى الله عليه وسلم، فغضب وقال أتتهوكون «يعنى: أتتحيرون» فيها يا ابن الخطاب والذى نفسى بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شىء، فيخبرونكم بحق فتكذبونه أو بباطل فتصدقونه، والذى نفسى بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعنى. والعجيب أن عمر ظل على هذا الدأب حتى خلال فترة خلافته، فقد كان يسمع من كعب الأحبار، وما يتلوه عليه من أخبار توراتية، وتذكر كتب التراث أن كعبًا تنبأ لعمر باغتياله على يد المجوسى «أبولؤلؤة»، لكن الرجل القوى ظل يدب على الأرض غير مكترث لما سمع، إيمانًا بأن الموت قدر، ولكل أجل كتاب، حتى لقى وجه ربه شهيدًا، ونموذجًا للشخصية الإنسانية المريدة القادرة، المدققة فى ملاحظة العالم من حولها، صاحبة العقل الذى لا يتوقف عن طرح الأسئلة.