رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

موسم المدارس.. أجمل ما فينا ولادنا

محمد العسيري
محمد العسيري

للشاعر الصديق جمال بخيت أغنية جميلة لحنها حلمى بكر، على ما أظن، وغنتها غادة رجب فى أحد المهرجانات الدولية منذ سنوات، أذكر منها «رغم كل شىء.. لسه فيها شىء بنعشق الحياة».. لا أعرف لماذا تحاصرنى هذه الكلمات فأدندنها منذ ثلاثة أيام كلما رأيت طفلًا مرتديًا الزى المدرسى يرمح فى الشارع، أو يكاد يفعل ليلحق بأمه التى سارعت لتلحق بالميكروباص أو الباص، فيما الشمس لم تشرق جيدًا بعد.

المشهد الصباحى اليومى لخروج أطفال مصر فى طريقهم إلى المدارس فى الريف أو المدينة بتفاصيله المختلفة يكاد يكون المشهد الأجمل فى مدخل هذا الشتاء وأى شتاء. لا أعرف سببًا لهذه البهجة.. يبدو أنها البهجة فى حد ذاتها دون أسباب.. هذا اللهاث اليومى لأولياء الأمور وأحاديثهم المتلاحقة عبر السوشيال ميديا، وفى الشوارع، وعلى المقاهى عن «السبلايز» وتلك الأمور المستحدثة.. عن أقساط المدارس التى لم تلتزم الحكومة بما أقره وزيرها.. ولم تفعل لجانه شيئًا لتنفيذها.. البرلمان العائد ومناقشاته المتأخرة عن تعديلات المناهج للصفين الرابع والخامس الابتدائى.. حتى تلك الكتابات التى تستدعى أيامنا الأولى فى مدارسنا بدون «لانش بوكس»، وربما بدون أى أطعمة من الأصل.. تلك المقارنات بين زى مدارس زمان «الكل يرى أننا كنا أحلى».. وأزياء هذه الأيام والسبوبات العاجلة.. كل ذلك كله لا يغير شيئًا من جمال المشهد.. بل يزيد من ملامحه نصوعًا.. إلى هذا الحد يرغب المصريون فى تعليم أولادهم حقًا؟!

مائة وخمسون مدرسة جديدة دخلت الخدمة هذا العام.. الرقم يبدو كبيرًا ومفرحًا، وقد يسهم بشكل كبير فى تقليل زحام الكثافات فى مدارس الحكومة التى لا تزال ملجأ نصف الشعب المصرى على الأقل، فى ظل أرقام مخيفة للمدارس الدولية والخاصة.

هذا الرقم الذى دخل إلى الخدمة فعلًا، حسب تصريحات وبيانات حكومية أكدتها مشاهدات الأهل والأصدقاء فى أماكن عدة، فضلًا عن عدد غير قليل من المدارس التى جرت إعادة تأهيلها وتطويرها ضمن المبادرة الرئاسية «حياة كريمة»- يصب فى خانة تقليل أعداد الطلاب فى الفصول.

زادت أسعار الباصات التى تؤجرها المدارس للطلاب بشكل غير مسبوق، والحجة زيادة أسعار المحروقات.. ومافيش مانع حد يقولك الدولار وحرب أوكرانيا أيضًا.. لكنى وبصدق أتساءل: هل هناك أى رقابة من أى نوع من أى جهة على المدارس فى مصر؟ هل هناك أى رقابة إدارية أو مالية على عمليات «السمسرة» التى يمارسها أصحاب المدارس الخاصة؟ وبالمناسبة: ماذا تفعل هذه الجمعية المسماة بأصحاب المدارس الخاصة؟ وماذا يفعل أعضاء مجلس إدارتها؟ وهل يعملون لصالح أولادنا.. أم لصالح أصحاب المدارس؟ الأمر لا يحتاج إلى إجابة.

مبكرًا.. ربما منذ شهر مضى.. بدأت معركة حجز موقع.. موطئ قدم فى أى مجموعات للدروس الخصوصية، ويبدو أن هذه المعركة لن تنتهى قريبًا.. كل ما يردده السادة فى وزارة التربية والتعليم عن محاربتهم هذه الظاهرة التى صارت واقعًا بغيضًا يستنزف جيوب الأهالى وأوقات وأعصاب الأبناء «طق حنك».. كلام لا وجود له.. كل ما قيل عن أن تطوير المناهج وتغيير نظم الامتحانات، وكل ما عانيناه مع تجربة التابلت والأون لاين وما شابه راح هباء.. لم يحدث أن تراجع المدرسون عن أفعالهم، ولم تصل القناعة لأولياء الأمور بأن أبناءهم يستطيعون تحصيل العلم دون هذه الدروس الخصوصية.. الأمر لا يحتاج إلى لجان جديدة ومناقشات جديدة تستنزف ما بقى من عقولنا وأعصابنا.. الظاهرة اخترقت بيوتنا حتى آخرها.. وصارت أعباء توفير متطلبات هذه الدروس شيئًا لا يطاق، ولا يعرف أحدنا له حلًا قريبًا.

المدارس الخاصة تقوم بتشغيل المدرسين دون مرتبات تقريبًا.. بعضهم يحصل على سبعمائة جنيه فى الشهر ويرضى بذلك.. لا لشىء إلا ليحصل على مسوغ شرعى يسمح له باقتناص مجموعة من الطلبة ليقوم بالتدريس لهم فى سناتر مستأجرة أو فى المنازل.

أصبحت عملية حجز مدرس ليقوم بالتدريس لأطفالنا فى هذه السناتر أو المنازل أمرًا غاية فى الصعوبة.. كلهم تحولوا إلى بروفيسورات وأعلام، والأرقام التى يحصلون عليها مبالغ فيها إلى حد العبث.. ميزانية أى أسرة تقوم بتعليم طفلين فقط كارثية.. ويستمر الوضع هكذا حتى نهاية الموسم فى يوليو القادم.. وربما إلى ما بعد ظهور النتائج تحسبًا للملاحق.

هذه الدوامة السخيفة قطعًا لن تنتج التعليم الذى نريده.. لا تحقق المعادلة التى تسعى الحكومة المصرية لتطبيقها.. لا حديث هنا عن أى مخرجات لعملية التعليم بهذه الطريقة، وبالرغم من ذلك لا يستطيع أحدنا التوقف.. صارت القصة وكأنها الحياة ذاتها.. فهل يستطيع أحدنا التوقف عن الحياة؟

كنت أتعشم أن نجد وقتًا لنقرأ فيما سيدرسه الأبناء.. كنت أتمنى أن نجد فرصة لنتحدث عن مناهج اللغة العربية التى أصبحت غريبة تمامًا عن أطفالنا.. عن مناهج التاريخ.. تاريخ مصر المعركة الأهم والأبقى.. عن معركة الوعى.. عن المواهب.. وحصة الدين.. والمسرح والموسيقى عن «الشعر الكئيب».. الذى يحفظه أطفالنا عنوة منذ أيام الجاهلية.. عن نجيب محفوظ وطه حسين وجيل الستينيات وإبداعاتهم الواجب تدريسها لأبنائنا.. عن «اليوم الكامل».. وملاعب المدارس التى تنتظر أن نجد فى ساحاتها ألف محمد صلاح جديد.. عن الصحة.. عن المستقبل.. عن التأهيل لعام جديد.. عن جمال حمدان الذى أتمنى أن يتم تعميم كتبه على كل مناهج الجغرافيا.. عن المناخ الذى سنعقد له قمة بعد أيام على أرض مصر.. كل هذا لا نستطيع أن نسأل عنه ونحن نتجادل حول أم «فرخ الكالسون» الذى تطلبه المدارس ولا أعرف أهميته أو ماهيته من الأصل.. كل ذلك مؤجل حتمًا.. فالموسم لا يزال فى أوله.. وبرغم كل شىء سيظل مشهد أطفالنا وهم يتسابقون إلى باصاتهم مرعبًا ومدهشًا وجميلًا مثلهم.. أجمل ما فينا أولادنا حتمًا.. فكل عام وهم سعداء.