رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد حجاب.. الصياد الذى عشق «الجنية»

احمد مجاهد
احمد مجاهد

- أول شاعر عامية لم يخرج من عباءة بيرم التونسى

- لم يهتم بإشكالية «عامية أم فصحى؟».. وكان يرى أن «فيه شعرًا أو لا»

- تأثر بالمأثور الشعبى الأصيل بكل ما يحمله من أساطير وحكايات وأغانٍ

- تشرّب التراث البحراوى من نشأته على بحيرة المنزلة وتعهد بروايته للجميع

- تفرد بين رواد العامية باستخدام رموز الصيد والبحر بكثافة وحساسية مشهودة

- لا تعرف إن كانت «الجنية» فى قصائده الفلاحة أم إيزيس أم مصر أم الجميع؟

- تأثر بالتراث العربى الفصيح فى مواضع كثيرة.. وتجاوزه إلى مستوى النقد أيضًا

يصلح الإهداء الذى صدر به سيد حجاب الجزء الأول من أعماله الكاملة الصادر عن دار «الفكر» عام ١٩٨٧، الذى يضم دواوين: «فى العتمة- أصوات- نص الطريق»، لأن يكون مدخلًا متميزًا لقراءته، فهو يقول فيه: «إلى صلاح جاهين.. وعبدالوهاب البياتى.. والفلاح المصرى المجهول الذى أبدع المأثور الشعبى. منه تعلمت أن أخطو على عتبات عالم الأصوات، حيث يختلط مد السحر.. وسحر الشعر».

أما السبب فى اختياره لـ«صلاح جاهين» أولًا، فلا يرجع فقط إلى أنه قد بشر بموهبته فى بابه الشهير «شاعر جديد يعجبنى» بمجلة «صباح الخير»، حين قال عنه فى ٢٧ يوليو ١٩٦١: «سيد حجاب.. تذكروا هذا الاسم، فإنه سيعيش طويلًا فى حياتنا المقبلة، وسيكون له شأن عظيم». ولا لأنه قد طبع له ديوانه الأول «صياد وجنية» عام ١٩٦٦، عن دار «ابن عروس»، التى أسسها «جاهين» لنشر دواوين شعراء العامية الشبان المتميزين. ولكن لأن «حجاب» كان يرى أن «أول فعل حقيقى، وأول اندماج حقيقى كبير بين الشاعر الفرد وثقافة أمته، يتمثل فى صلاح جاهين».

فـ«حجاب» أول شاعر عامية مصرية لم يخرج من عباءة بيرم التونسى، بل كان يرى أن «الشعر الشعبى الوحيد الذى عرفه بيرم فى زمانه هو شعر السيرة الهلالية، لكن ليس لديه خبر عن غناء الساقية والشادوف، وغناء الصبايا فى الغيطان، كل ذلك كان بعيدًا عن معرفته، ومن ثم حاول تقديم تصوره هو كمثقف لفنون الشعب».

أما السبب فى اختياره لـ«عبدالوهاب البياتى» ثانيًا، فلا يرجع فقط إلى أنه قد كتب له كلمة ظهر الغلاف لديوانه الأول، وقال عنه فيها: «إنه من شعراء الطليعة القلائل الذين استطاعوا بكل روعة استخدام لغة الحديث اليومى لتحريك الأشواق إلى عالم جديد، متخطين عقبات الرموز واللغة، حتى كأنك تسمعها لأول مرة.. إن الطبيعة الصامتة، والحزن والكلمات تستحيل فى قصائد هذا الشاعر الموهوب إلى دلالات حية، تنبض بحرارة الخلق وبكارته».

ولكن لأن «حجاب» كان صاحب مقولة نقدية عامية خالدة، وهى: «فيه حاجة اسمها شعر، وحاجة اسمها ما شعرش»، والتى أقرب ما تكون إلى مقولة قدامة بن جعفر: «الشعر ما أشعرك». فـ«حجاب» لا يهتم هل الشعر مكتوب بالعامية أم بالفصحى؟، بل يهتم بمدى علاقة نص القصيدة بجوهر الشعرية، ولهذا اختار شاعرًا فصيحًا لكتابة كلمة ظهر الغلاف فى ديوانه العامى الأول، وقد اختاره شاعرًا عربيًا إيمانًا منه بالقومية العربية.

أما سبب اختياره ثالثًا لـ«الفلاح المصرى المجهول الذى أبدع المأثور الشعبى»، فذلك لأنه قد تعلم من هذه المأثورات بما فيها من أساطير وحكايات وأغانٍ وغيرها. يقول: «تعلمت أن أخطو على عتبات عالم الأصوات، حيث يختلط مد السحر.. وسحر الشعر».

فدور الأصوات فى عالم سيد حجاب الشعرى هو الدور الأبرز بين شعراء العامية المصرية، مصداقًا لسحر الكلمة، الذى يتضافر بدوره مع سحر عوالمه العجائبية الشعبية التى برزت واضحة منذ ديوانه الأول.

فقد ولد سيد حجاب فى ٢٣ سبتمبر ١٩٤٠، داخل مدينة «المطرية» المطلة على بحيرة المنزلة فى الدقهلية، التى يقول عنها: «نشأت فى مدينة للصيادين، وهى عبارة عن شبه جزيرة تحدها المياه من ثلاث جهات، والناحية الرابعة تفضى إلى باقى مدن وقرى الدقهلية».

من هنا تشرّب سيد حجاب التراث البحراوى الشعبى بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، وتعهد بأن يرويه لنا:

أنا نص قلبى فى البُحيرة..

ونص قلبى فى البلد

ويا البنية والولد

وفقلبى، ياما فقلبى، حواديت تتسرد

ولهذا فإن سيد حجاب يروى لنا منذ ديوانه الأول «صياد وجنية» عن جنية البحر، وحكاياتها الخرافية:

والجنية ماشية ع الشطوط بتنوح

ماشية بشعور محلولة لكعوبها

ماشية بقدم حافية وعمّالة

ينقل تراب الشط ديل توبها

تسمع حكاوى البحر وتشوفها

وتروح تقولها ليلاتى لحبيبها

وحبيبها نايم.. فى سريرها قتيل

وسمعتهم بيقولوا فى بلدنا

دى مخلفة منه

رجالة بعددنا

فيحتار القارئ هل هى جنية البحر بالفعل.. أم هى الفلاحة المصرية التى يجرجر ذيل ثوبها الطويل فى التراب وهى تساعد زوجها فى العمل.. أم هى إيزيس التى أنجبت من زوجها القتيل أوزوريس ابنهما حورس ليأخذ بثأره.. أم مصر التى أنجبتنا جميعًا لنصنع مستقبلها.. أم أن الشاعر «ابن الجنية» كان يقصد كل ذلك معًا؟!

ولهذا لم يكن غريبًا أن يتفرد سيد حجاب بين رواد شعراء العامية باستخدام رموز الصيد والبحر بكثافة عالية وحساسية مشهودة، فهو يقول مثلًا فى قصيدة «الشوق» التى كتبها عام ١٩٧١، وتظهر فيها الجنية أيضًا:

لو الحقيقة لولى مخفى فى القرار

لأدور مع التيار..

وأغربل البحار..

وأوشوش الودع وأفتش المحار

وأعس فى المغارة واسأل الجنية والشبار

أنطّق الموج الضنين

لحد ما يقر لإيديا بسرها الدفين

ويذكرنا قول حجاب «أغربل البحار» فى التراث الشعرى بقول كعب بن زهير عن «سعاد» التى لا تتمسك بتنفيذ مواعيدها: «إلا كما تمسك الماء الغرابيل»، وكأنه لا سبيل للوصول للحقيقة.

لكنه يذكرنا أيضًا فى تراث الصيادين بصيد «أم الخلول» عن طريق غربلة الرمال أسفل مياه البحر القريبة من الشاطئ، فيعود إلينا الأمل فى الوصول إليها مرة أخرى. ولا مانع لدى «حجاب» فى عالمه السحرى من «وشوشة الودع» و«سؤال الجنية» حتى يصل إلى لؤلؤة الحقيقة.

وتظهر تأثرات سيد حجاب بالتراث العربى الفصيح فى مواضع كثيرة غير ذلك، لكن الجديد لديه أنها لا تتوقف عند مستوى الشعر فقط، بل تتجاوزه إلى مستوى النقد أيضًا، حيث يقول مثلًا:

وحتى لو حبيت أقول

إن النجوم فى المية عايمة.. مسهمة

وإن خطوة ناس بلدنا الطيبين.. متنغمة

وإنهم كلمة محبة فى الهدوم.. متقسمة

ومهما أقول

ما ينتهى لى بحر قول

ده البحر جنبى.. لو أمد إيديا أطول

فها هو يفخر بقوة موهبته الشعرية التى تفوق أقرانه، معتمدًا على الحكم النقدى الشهير الذى فضل فيه الأخطل شعر جرير على شعر الفرزدق، قائلًا: «الفرزدق ينحت فى صخر، وجرير يغرف من بحر».

فقد بدأ «حجاب» شاعرًا فصيحًا، لكنه أحس بأن حاجز اللغة يحول بينه وبين قصائد الصيادين، ثم تأثر بقصص إدريس والشارونى والخميسى التى يكتبون فيها السرد بالفصحى والحوار بالعامية، ففعل كذلك فى قصائده. ثم مع بداية دخول موجة شعر «التفعيلة» لمصر، يقول: «كنت أقرأ (الرسالة الجديدة) فى عام ١٩٥٩، وبها التحولات الأولى لعبدالصبور وحجازى وسرور، فكتبت قصيدة التفعيلة العامية».

ولا شك فى أن تحول «حجاب» إلى الكتابة بالعامية كان تحولًا أيديولوجيًا فى المقام الأول، فبعد أن بدأ «إخوانيًا فصيحًا»، انتقل إلى «مصر الفتاة» فزاوج بين الفصحى والعامية، ثم أصبح «شيوعيًا» لا يجد طريقًا للإبداع الشعرى سوى العامية، فيقول فى مطلع قصيدة «تلات أغنيات للشعب»:

ملعون يا كل الشعر

لو تتفهم بالخُلف بين الإخوان

ملعون لو أنت ما كنت نور بالليل

وبالنهار ضليلة للجدعان

ملعون لو أنت ما كنت

لمعة فاس.. ولاسة راس

ولو نسيت طرق الزنود الزان

على السندان

لكن المفارقة المفجعة التى صدمت الشاعر هى أن قصائده عالية الشعرية التى ضمها ديوان «صياد وجنية»، واستقبلها المثقفون والنقاد بحفاوة بالغة، ووصفوا كاتبها بأنه «لوركا الشعراء العرب» تارة، و«بول إيلوار» أخرى، لم تصل للجمهور الذى كان يستهدفه. يقول: «القراء الذين كتبت الديوان من أجلهم لم يقرؤوه.. آلمنى الأمر كثيرًا.. شعرت بأنه من العبث أن تكتب شعرًا فى وطن تغمره الأمية.. عندئذ بدأت أتوجه للناس».

ومن باب الخرافة الشعبية، ربما كان هذا ذنب مولانا بيرم التونسى، فها هو «حجاب» الذى عاش فى بيئة الصيادين والفلاحين لم يستطع الوصول بقصائده العامية إلى أهله وعشيرته، بينما وصل «بيرم» الذى لم يعرف هذه البيئة إليهم بصورة أكبر.

فهل كان يتخيل «حجاب» مثلًا أن قوله العبقرى عن علاقته بأبيه:

أنا والسياف مسرور

شىء فى ملامحه

بيفكرنى بأبويا..

سامحه يا رب سامحه..

سامحنى.. قتلته وأنا ف مهدى..

فى غيطان قمحه..

ما قتلتوش.. لأ.. هوه قتلنى بإيده ورمحه

لأ.. ما قتلنيش..

وأدينى باعيش..

وأرمح رمحه

هل كان يتخيل «حجاب» أن هذا الصراع الدرامى الداخلى المتأجج، الممزوج بـ«الأوديبية» من ناحية، وبقتل الأب الفنى الذى علمه نظم الفصحى وبحور عروضها من ناحية أخرى، يمكن أن يستوعبه والده الريفى الأزهرى نفسه؟ لا أظن، وإن كان فهو رهان خاسر فى كل حال.

أما من باب النقد الأدبى، فيمكننى القول بأن الأيديولوجيا قد أضاعت علينا فرصة التطور الفنى لمبدع كبير بدأ الكتابة من نقطة متقدمة جدًا فى مسيرة الشعرية العربية، لأنه قرر الاتجاه إلى «المباشرة» بعد صدور ديوانه الأول عام ١٩٦٦، ثم أجبرته الظروف السياسية على الإمعان فى الطريق نفسه بعد هزيمة ١٩٦٧، ثم وجد ضالته فى كتابة الأغنية خارج الدراما وداخلها، ولم يخلص للقصيد الشعرى الصافى فى رحلته الطويلة بعد ذلك إلا نادرًا.

وحتى فى كتابة «حجاب» للأغنية الدرامية لم يفارق أيديولوجيته. يقول: «حين بدأت كتابة الأغنية الدرامية، كتبتها بحس الشاعر الملتزم سياسيًا بالوطن والإنسانية. ومهما كان موضوع الدراما بعيدًا فى طرحه عن الواقع الاجتماعى والسياسى، يوفقنى الله فى ربطه بالواقع والسياسة».

ويمكننا أن نرصد بسهولة اقتباس «حجاب» بعض قصائده فى الأغانى، لتصل للناس بصورة أكبر فى أكثر من موضع؛ كقوله مثلًا فى قصيدة «تقاسيم على القانون»:

باتمشى زى نسمة الهوا المصحصحة

وأنفد كأنى الضى.. طى مشربية معشقة

بأدوب أنا ف رعشة قانون

وسط الحوارى الضيقة

فالمقطع السابق ينقلنا فورًا إلى تتر نهاية مسلسل «أرابيسك»، وقول «حجاب»: 

ويرفرف الحلم الجميل الحنون

ويفر ويفرفر فى رفة قانون

وكذلك قوله فى قصيدة «٣ كوابيس وحلم»:

من بين صوابعى الباردة بيسيل الزمن

بأنام.. بأموت

الموتة نومة.. والسرير

قبر اتنصب جوه البيوت

وينقلنا المقطع السابق أيضًا إلى تتر نهاية مسلسل «ليالى الحلمية»، الذى يقول فيه: 

ما تسرسبيش يا سنينا من بين إيدينا

وما تنتهيش ده إحنا يا دوب ابتدينا

وعلى الرغم من هذا كله، فإن لـ«سيد حجاب» تأثيرًا كبيرًا فى حركة الشعر المصرى الحديث بشقيه: العامى والفصيح، على الصغار والكبار.

فعلى مستوى شباب شعراء العامية كان هناك مثلًا الشاعر مجدى الجابرى الذى مات شابًا، صاحب ديوان «عيل بيصطاد الحواديت»، والذى بدأ شعر العامية من حيث انتهى سيد حجاب فى «صياد وجنية»، وطور فى قصيدة العامية، لكن القدر لم يمهله.

وعلى مستوى شعرائها الكبار، فقد حاوره صلاح جاهين نفسه، وقال «حجاب» فى قصيدة «صور أندلسية» عام ١٩٦٩، تحت عنوان فرعى «شجرة بان»:

الشجرة..

اللى «لوركا» نام مقتول فى ضلها

لسه يا ناس..

بتسقسق الضلة لراس الحرس المثلثة

الشجرة..

اللى «لوركا» نام مقتول فى ضلها

الحرس الأسود ح ينتهى، ويتنسى مسا الأسى

وهية باقية للأبد.. محلها!!

وقال «جاهين»، فى قصيدة رثاء «بابلو نيرودا» عام ١٩٧٣، التى استدعى فيها شخصية «لوركا»:

يلحق «بلوركا» ويقابله «لوركا»

هناك فى مستنقع الدماء

يمسح جراحه ويقول له قل لى:

فيه لسه فى الدنيا أدنياء؟

فيه لسه ناس ماسكة بندقية

ومصوباها للأبرياء؟

للحب؟ للحلم؟ للحقيقة؟

للصدق؟ للطهر؟ للنقاء؟

دماء كمال ناصر اللى لسه

طراى وزى العسل صفاء

تنطق تقول: أيوه لسه برضه

الضلمة قادرة على الضياء

وقادرة تقتل بابلو نيرودا

وألف غيره م الشعراء

ففى مقابل رؤية «حجاب» المتفائلة النادرة التى يرى فيها الشاعر «ابن الجنية» أن «مسا الأسى حيتنسى»، وأن ظل شجرة «لوركا» سيمتد ليظلل العالم، فإن «جاهين» يقرر على لسان «لوركا» نفسه أنه على الرغم من مرور السنين «لسه الضلمة قادرة ع الضياء».

وقد قال سيد حجاب فى قصيدة «القمر» عام ١٩٦٣:

ما تآخذنيش يا مصر.. قمرك غريب

ما هوش قمر صيادين

وأنا من بلاد الصيادين ابن بحر

ومش قمر فلاحين

وأنا عشت فى بلادهم ميتين ألف شهر

ومش قمر..

.. يمكن يكون قرش صاغ

ماسح من الوجهين

وأظن أن التشبيه العبقرى المدهش الجديد للقمر من «ابن البحر» بأنه «قرش صاغ ماسح من الوجهين»، هو الذى استثار الأبنودى ابن الصعيد ليبحث عن تشبيه فذ آخر له فى قصيدة «الخواجة لامبو» فى العام التالى ١٩٦٤، حين قال:

يا قمر يا رغيف بعيد

النهارده الحد عيد

الغناى ليه مبسوطين؟

والفقير ليه مش سعيد؟

وعندما أقرأ هذا المقطع الرائع من قصيدة سيد حجاب «الكذب» المكتوبة عام ١٩٦٦:

كانت ضفايرها مرخية

كانت ستايرها التل بترقص ويانا

وإحنا بضحكتنا العريانة

دايبين سوا جوه الناموسية

كانت ضحكتها بتلولو زى الحية

«حبّاك»

رقصت شياطين الضحكة فى عينى..

واتفرطوا نجوم الأفلاك

واتسرسبوا جنب القلة الفاضية على الشباك

كلمتها على شفتها كانت هايشة زى القش

ما أعرفش إزاى فكرت ساعتها فى الأكفان والنعش!

لا يسعنى إلا أن أتذكر قصيدة صلاح عبدالصبور العبقرية «انتساب» المنشورة فى ديوانه الأخير، وسؤاله الوجودى المدهش بها:

أبغى أن أعرف كيف تكون الرغبة لحظة صحو

وكمال الرغبة لحظة محو؟

ولم لا؟ وقد تزاملا فى كتابة الشعر بمجلة «جاليرى ٦٨» الطليعية.

ولا أستطيع أن أقرأ وصف «حجاب» للفلاحين الزنوج فى أمريكا الجنوبية التى لم يعش بها، بقصيدة «تنويعات على الساكسفون»:

مدينة الأسفلت والحديد

باتوه أنا.. بتصبح المدينة غاية

مين يحوش

عنى الديابة والوحوش

أنا وحيد

وسط الضجيج الأعمى والكلاكسونات

من لحظة الولادة للممات

ما أعرفش حد فى البلد دى..

ما حدش هنا يحب حد

الناس هنا أصفار على الشيكات

هنا الضياع مالهش حد

والغنى مالهش حد

والدنيا للفقارى حارة سد

بمعزل عن تجربة حجازى وقصائده فى مرحلة صدمة المدينة، وبخاصة قصيدة «لا أحد» التى تنتهى بقافية الدال الساكنة أيضًا.

كما لا أستطيع أن أقرأ قصيدة «حجازى»: «جيرنيكا أو الساعة الخامسة»، التى يحمل أحد مقاطعها عنوان «لوركا»، ولا يقفز إلى ذهنى قصيدة «حجاب» عنه: «تنويعات على الجيتار»، التى يقول فيها:

قتلوك يا «لوركا».. فى تمام الخامسة

فى الخامسة الصبحية.. بس الصبح كان مسا

العالم الممقوت بيقتل دون كيشوت

الساعة الخامسة.. فى تمام الخامسة

يا عنكبوت الموت

يا وردة الدم الندية فى شبابيك البيوت

المستحيل.. «لوركا» يموت.. أو يتنسى

وقد كان «حجاب» هو أول من قام فى الشعر العربى بالتناص مع قصيدة «لوركا» التى كتبها فى وفاة صديقه مصارع الثيران إيناسيو سانشيز، التى تعد عبارة «الساعة الخامسة» عبارة محورية متكررة بها.

كما أننى لا أستطيع أن أقرأ قصيدة سيد حجاب: «وردة زمان الغربة والأحزان»، التى يقول فى بدايتها:

يا وردة بكرية فى أواخر مواسمى

دلوقت.. وأنا واقف أواجه مصيرى

أنا باسألك: أنت أنا.. ولا غيرى؟

وأنا أنا.. ولا عذابى طوى اسمى

بمعزل عن بداية قصيدة أمل دنقل «الورقة الأخيرة: الجنوبى»، من ديوان «أواق الغرفة ٨»، الذى كتبه الشاعر فى المستشفى، وهو يواجه مصيره مع المرض الخبيث، حيث يقول:

هل أنا كنت طفلًا

أم أن الذى كان طفلًا سواى؟

كما أننى لا أستطيع قراءة قول أمل دنقل فى قصيدة «سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس»، التى نشرها ضمن ديوان «العهد الآتى» عام ١٩٧٥: 

يصفعنى وجهى المتخفى تحت قناع النفط

من يجرؤ أن يضع الجرس الأول فى عنق القط

ولا أتذكر قول حجاب فى قصيدة «تلات كوابيس.. وحلم» عام ١٩٦٩:

مين اللى يتجرأ يعلق الجرس

على رقابى العتمة..

والخوف..

والخرس؟!!

كذلك لا أستطيع أن أقرأ ديوان «العهد الآتى» كله، ولا أتذكر قصيدة «تكوين» لسيد حجاب التى كتبها عام ١٩٧١، ويقول فى مطلعها:

فى البدء..

كان الكون

وإمكان التفجر المكنون                                                       

فقد كان «حجاب» على علاقة قوية بالتراث المسيحى منذ مولده، ونذرت أمه نذرًا لكل من السيد البدوى ومار جرجس فى ميت دمسيس حتى يأتى المولود ذكرًا، وكانت الأناجيل تجاور المصاحف فى منزل والده، كما أنه كان متزوجًا فى بداية حياته من سويسرية والدها قس الجالية السويسرية فى مصر، وقد أقام بعض الأيام فى الأديرة.

ولا يعنى كل كلامى السابق القطع بالتأثير والتأثر بين هؤلاء الشعراء الكبار فى تلك الحالات، بل يعنى فى المقام الأول أن «حجاب» كان ترسًا محوريًا فى تيار عام يؤسس لشعرية عربية حديثة، وكان يمكن أن يسهم فى دفعها إلى الأمام أكثر وأكثر لولا صدأ الأيديولوجيا.