رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرجل النحيف

لم تكن حياة صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، سيفًا ورمحًا وحروبًا وغزوات، كما يركز البعض عند تصويرها، بل عكست أيضًا وجهًا إنسانيًا شديد الرواء والصفاء لهذه المجموعة التى تحلقت حول دعوة النبى، وهو وجه عبّر عن طبيعتهم كبشر، يجوعون ويشبعون، ويفرحون ويحزنون، ويصيبون ويخطئون، ويحبون ويكرهون، شأنهم شأن البشر فى كل زمان ومكان. أتفهم محاولة البعض عدم التوقف أمام الوجه الإنسانى لصحابة النبى، كمحاولة لإضفاء هالة من التمجيد والقداسة عليهم، أما التمجيد فهم يستحقونه عن جدارة، لبلائهم الحسن فى نصرة النبى، لكن القداسة لا تكون لبشر، إلا للأنبياء المعصومين بالله ومن الله. الولع بإظهار جانب الغزو والبطولة فى حياة الصحابة أخفى الوجه الإنسانى الذى تجلت فيه تجربتهم البشرية، لتعكس نماذج متنوعة للإنسان حين يتفاعل مع قيم الإسلام. لقد أشار المفكر السعودى «سعيد السريحى» غير مرة إلى هذه الثغرة فى الكتابات التى أرخت لحياة الصحابة رضوان الله عليهم التى ركزت على الوجه القتالى «الغزوات والملاحم»، ولم تهتم بكشف الوجه الإنسانى لهذه التجربة الفريدة فى تاريخ البشرية إلا عبر شذرات تتناثر هنا وهناك. تعالوا نتأمل الجانب الإنسانى فى شخصية أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، ونحاول التوقف أمام ملامح شخصيته، وكيف أثرت فى رحلته بالحياة. 

التركيبة الجسمية لشخص أبى بكر تشير إلى أنه كان شخصًا نحيفًا، معروقًا أى تظهر عروق جسده من يديه بسبب نحافته البالغة، التى كانت تبرز فى ساقيه أيضًا، عانى من انحناءة أو ميل فى الظهر، غائر العينين، يميل لونه إلى البياض المختلط بصفرة الوجه. التكوين العام لأبى بكر، رضى الله عنه، كان يؤشر إلى ضعف بنيته الجسدية، لذلك لم يكن أبوبكر رجل اشتباك، لذلك لا يوجد ما يشير إلى أنه اهتم بالأوضاع السياسية داخل مكة قبل بعثة النبى، رغم وعيه الكامل بما يدور حوله، لأن همه الأكبر انصرف مثل الكثير من سادات مكة إلى التجارة، وقد استطاع أن يجنى منها أرباحًا كبيرة، وضعته فى مصاف كبار التجار والمؤثرين داخل المجتمع المكى.

لم يؤثر عن أبى بكر الصديق على سبيل المثال أى نوع من الحضور أو المشاركة فى حرب الفجّار التى عاصرها طفلًا، وهى الحرب التى أشار النبى، صلى الله عليه وسلم، إلى مشاركته فيها، والواضح من سيرته أيضًا أنه لم يكن يغشى مجالس قريش، حيث كان ميالًا إلى العزلة بعد الفراغ من عمله. وليس أدل على ذلك مما أشار إليه «ابن كثير» من أن أبا بكر حرم الخمر على نفسه قبل بعثة النبى، وأغلب الظن أن المسألة لم تكن مسألة تحريم، لكنها ارتبطت فى الأساس بالتكوين النفسى والجسدى للرجل، فميله إلى العزلة دفعه إلى الزهد فى مجالس الخمر التى كان عرب مكة ينصبونها مساءً، كما أن ضعف بنيته الجسدية دعاه إلى الاحتراز مما قد يضعفها أكثر. 

النفس المتأملة هى الميالة إلى العزلة. كما أن ضعف بنية الجسد يمنح العقل المزيد من الصفاء، خصوصًا حين يجد الإنسان نفسه مضطرًا إلى البعد عما يفقده وعيه، لأن صحته لا تحتمل ذلك. ولعلك قرأت ما ذكره «ابن كثير» من أن أبا بكر بنى له بعد أن دخل الإسلام مسجدًا عند باب داره يتعبد ويصلى فيه، وكان المسجد لخاصة نفسه ولم يكن للناس عامة. وأيضًا ما ذكره عن وصف عائشة لأبيها، رضى الله عنهما، من أنه رجل أسيف، وقيل فى معنى «أسيف» إنه الرجل ضعيف البنية متهالك الصحة، أو الرجل الخاشع المتبتل الضعيف أمام خالقه. والصفتان تنطبقان على «الصديق»، كما تشهد على ذلك تجربته كإنسان.

الميل إلى التأمل واشتعال العقل بالتفكير جعلا أبا بكر شديد الولع بعلم الأنساب، وقد اشتهر الرجل بأنه أعلم العرب بأنساب قريش وما فيها من خير وشر، ما يعنى الوعى الكامل بالبشر الذين يتعامل معهم والفهم الرائق والنافذ لشخصياتهم، وما يحركهم فى المواقف المختلفة، وقد يقدم لك ذلك تفسيرًا للقدرة الخاصة التى امتاز بها أبوبكر فيما يتعلق بإصدار الأحكام والقرارات، فقد تمتع بسرعة بديهة ناتجة عن عمق الوعى دفعته فى المواقف المختلفة إلى السبق بالقرار، فى حين يظل غيره يفكر ويتدبر حتى يصل إلى قرار. لم يكن أبوبكر يصدّق بقلبه، كما يذهب الكثيرون، بل بعقله وقلبه. يشهد على ذلك موقفه فى واقعة الإسراء والمعراج، حين سارع- دون الجميع- إلى تصديق الواقعة من منطلق أنه يصدق صاحبها حين ينبئه الخبر الذى ينزل إليه من السماء، فمن يهبط إلى النبى بالخبر من السماء قادر بالبداهة على اصطحابه إليها.

إنها سرعة البديهة التى تجدها حاضرة فى العديد من المواقف الأخرى التى كان أبوبكر طرفًا فيها، فحين خطب النبى، صلى الله عليه وسلم، فى الناس وقال: «إن الله عز وجل خيّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عنده»، ففهم أبوبكر الرسالة، وعلم بقرب صعود النبى إلى ربه. وبالدرجة نفسها من سرعة البديهة واتته الآية الكريمة: «وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم»، فحسم حالة الارتباك والتشكك التى ضربت المسلمين بعد وفاة النبى، وبسرعة البديهة نفسها حدد أبوبكر الصديق موقفه من ردة العرب، وأدرك ما لم يستوعبه غيره من الصحابة من خطر يتهدد الدولة، بسبب حالة التمرد التى اجتاحت العرب بعد وفاة النبى. فهم أبوبكر أنه تمرد على الدولة التى تقودها قريش، واتخذ قراره بسرعة ببذل كل الجهد حتى لا تتبعثر.

وخلافًا لغيره من صحابة النبى، صلى الله عليه وسلم، أنجب أبوبكر عددًا محدودًا من الأولاد، شمل ثلاثة ذكور «عبدالله وعبدالرحمن ومحمد» وبنتين «أسماء وعائشة»، وتزوج أربع مرات، مرتين قبل الإسلام ومرتين بعده، وكانت أحب زوجاته إليه أسماء بنت عميس.

امتلك الرجل النحيف نفسًا متأملة وعقلًا متوهجًا بالوعى صرفاه عن سطحيات الحياة وزهدته فى الدنيا وما فيها، فلم يكترث إلا بما يحد عقله وينقى نفسه، رضى الله عنه وأرضاه.