رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«ذكريات معه».. الوجه الآخر لزعيم ثورة يوليو بعيون زوجته

جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر

حاولت تحية عبدالناصر كتابة مذكراتها مرتين، الأولى فى حياته، والثانية بعيد رحيله، لكنها لم تقوَ على المواصلة فمزقت ما خطّت يدها، حتى كانت المحاولة الثالثة فى الذكرى الثالثة لرحيل «الرئيس» كما كانت تسميه، فكتبت بخط يدها «تحية عبدالناصر.. ذكريات معه» كتاب ملىء بالأحداث والمواقف والوجه الإنسانى الآخر لحياة الراحل جمال عبدالناصر. 

ربما لا يعرف الكثير من الناس الجانب الإنسانى للرئيس الراحل، الذى كشفت عنه تحية عبدالناصر عندما أخرجت تلك المذكرات للنور، فقالت: «لقد عشت مع جمال عبدالناصر ٨ سنوات قبل الثورة و١٨ عامًا بعدها، لقد تزوجنا فى يوم ٢٩ يونيو عام ١٩٤٤، أى عشت معه ٢٦ عامًا وثلاثة أشهر. 

فأنا أعيش فى منشية البكرى فى بيت الرئيس جمال عبدالناصر مع أصغر أبنائى عبدالحكيم، الطالب بكلية الهندسة جامعة القاهرة، ويبلغ من العمر الآن ثمانية عشر عامًا وثمانية أشهر، وهو الذى طلب منى أن أكتب، وألحّ فى أنه متشوق لمعرفة كل شىء عن والده العظيم».

وحول خطبتها من عبدالناصر، كشفت عن كواليس الخطبة والزواج، فقالت: «كانت عائلتى على صداقة قديمة مع عائلة عبدالناصر، وكان يحضر عمه مع زوجته التى كانت صديقة لوالدتى، ويقابل شقيقى الثانى، وأحيانًا كان يرانى ويسلم علىّ، عندما أراد أن يتزوج أرسل عمه وزوجته ليخطبانى، وكان وقتها برتبة يوزباشى، فقال أخى، وكان بعد وفاة أبى يعد نفسه ولى أمرى، إن شقيقتى التى تكبرنى لم تتزوج بعد، وكان هذا رأى جمال أيضًا، وقال إنه لا يريد أن يتزوج إلا بعد زواج شقيقتى، وبعد زواج أختى تم رفض جمال إلا أنه وافق أخى بعد رحيل والدى وتزوجنا.

وأثناء خطوبتنا، لاحظت أنه لا يحب الخروج لنذهب لمكان مجرد قعدة أو نتمشى، بل كان يفضل السينما أو المسرح، حيث مسرح الريحانى، وكنت لا أرى إلا القليل فكل شىء كان بالنسبة لى جديدًا، وكل الخروج كان بالتاكسى، ونتناول العشاء ونرجع البيت، وبعد خمسة أشهر ونصف تزوجنا.

وبعد عقد القران، ذهبنا للمصور (أرمان) لالتقاط صور الزفاف، وكانت المرة الأولى التى أخرج معه بمفردنا، وكانت عربة الزفاف مليئة بأكاليل الورد لتظهر فى الصورة.

وبعد أسبوعين من الجواز سافرنا للإسكندرية ومكثنا أسبوعين، وكانت فى هذا التوقيت مليئة بالإنجليز إذ لم تكن الحرب قد انتهت بعد، وبعد رجوعنا من القاهرة ذهبنا لشقيقتى حيث وضعت طفلتها (ليلى)، وكان دائمًا يزور أقاربى وصلته بهم جيدة».

عادات جمال فى استقبال الضيوف

وتطرقت تحية إلى جمال فى منزله وطقوسه فى استقبال الضيوف، فأوضحت: كان رأى جمال فى الاختلاط أنه لا يحبه، بمعنى أننى لا أجلس مع الضيوف من الرجال، فكان إذا حضر ضيف ومعه زوجته يقابله بمفرده ويصافحه ثم يصطحب الزوجة إلى الصالة ويدخل لى فى الحجرة ويقول: توجد سيدة فى الصالة سلمى عليها واجلسى معها حتى تنتهى الزيارة، ولا أسلم على الضيف، فكان يخرج من باب الصالون، وكان منظمًا فى كل شىء ولا يحب أن يساعده أحد فى لبسه، وكان عند رجوعه البيت يخلع البدلة ويعلقها بنفسه ويضعها فى الدولاب.

وعندما دخل كلية أركان حرب، ومدة الدراسة سنتان، كان ضيوفه كثرًا ويأتون بصفة مستمرة، ومن أصدقائه عبدالحكيم عامر الذى كان يحضر معه للمذاكرة بشكل مستمر مصطحبًا زوجته أحيانًا.

عاداته فى الخروجات والعطلة الأسبوعية

كان جمال يخرج معى يومًا واحدًا فى الأسبوع ونذهب إلى السينما، وكان الموسم قد بدأ بالأفلام الجديدة فى سينما مترو وريفولى إلى آخره، فكان يحجز التذاكر من قبل ليختار المكان الذى يفضله.

كان يكره نظام «المراسلة»

وفى أثناء فترة الحمل فى الطفل الأول كان يذهب معى كل شهر للمتابعة، حسب تعليمات الطبيب، وكان جمال يكره نظام «المراسلة» ويقول: إنه نظام خاص بالضابط فقط، لكن البعض، وهم الأغلبية، يعاملونهم كخدام للأسرة وأكثر، لأنه لا يملك أن يشتكى أو يتظلم إذا ثقل عليه الشغل أو عومل بقسوة أو أن يترك المنزل ويبحث عن شغلة أخرى- وكنت على رأيه، كما كان يعتبر أن فى الطريقة هذه امتهانًا لكرامة وعزة الجندى.

مولد هدى

وتحدثت تحية عن مولودتها الأولى من الرئيس، فقالت: «أنجبت بنتنا الأولى هدى فى يوم ١٢ يناير عام ١٩٤٦، وظل طوال الليل معى فى المستشفى حتى الثامنة صباحًا وبعدها أخبر أشقائى، وكان يداعب هدى كثيرًا ويحملها ويدخلها للضيوف لدقائق». 

جمال الإنسان

وخلال رحلتنا الزوجية، مرض شقيقى الأكبر مما اضطر لإجراء جراحة فى الرئة، وكان إخوتى الآخرون لا يزورونه بصفة مستمرة خائفين ليكون المرض معديًا، إلا أن جمال كان يوميًا معه فى المستشفى، وعندما خرج أخى قال لأشقائى: «جمال أكثر واحد فى الدنيا أحبه وأقدره إنه أكبر إنسان قابلته فى حياتى وأحبه أكثر منكم».

وذات يوم زارنا الضابط ثروت عكاشة وزوجته، وكنت فى الحمل الثانى، فسألنا الضابط: ماذا تسمون المولود؟، فقال: خالد لو ولد ومنى لو بنت، وبعد أيام قليلة ولدت ابنتنا منى.

حياة عبدالناصر فى منشية البكرى

تناولت بالسرد تحية حياة الرئيس فى منشية البكرى، فقالت: «سنة ١٩٥٧ كان بيتنا فى منشية البكرى، زاد شغل الرئيس فى البيت فى مكتبه وفى الصالون فى المقابلات، والحركة فى البيت ازدادت لا فرق بين ليل ونهار، وعندما كنت أذهب للأوبرا أو المسرح أعود أجد المنزل كما هو، وعلى الرغم من انشغاله فكان يهتم بتعليم أولاده هدى ومنى وخالد، فكان يتابع الشهادات ويقول نحن نورث أبناءنا العلم يا تحية».

وأما عن نظام الأكل فى المنزل، فقالت: «لا توجد مواعيد للأكل مطلقًا، وكان الغداء أحيانًا الساعة الثالثة أو بعد الثالثة أو الرابعة بقليل، ونادرًا ما يكون الثانية، أما الإفطار فكان يطلبه فى حجرة النوم قبل خروجه مباشرة أو نزوله للمكتب، وأحيانًا يكون كوب لبن أو عصير فاكهة فقط ويخرج مسرعًا.

وأما العشاء فكان يتناوله بمفرده أو أتناوله معه إذا كان الوقت غير متأخر، وغالبًا يكون عشاء خفيفًا من الجبنة والزبادى، ويفضل الجبنة البيضاء، والأكل لا يكون متعدد الأصناف يعنى: لحم وخضار وأرز، صنف واحد من اللحوم إما طيور أو لحم أو سمك، وكان يوجد يوم فى الأسبوع يكون الأكل بدون لحوم».

حب عبدالناصر للسينما والتصوير

وأوضحت زوجة الرئيس: كان الرئيس يحب السينما ومشاهدة الأفلام بها، ويعتبرها وقت راحته، وأثناء مشاهدة الأفلام كانت ترسل له مذكرات، ويستعمل الولاعة فى قراءتها ويكتب الرد، وكان يحب التصوير بالكاميرا للصور العادية ولأفلام السينما، وكان ينزل للحديقة فى أوقات قليلة ويطلب الأولاد ويصورهم، ويطلب من أحد الأولاد أن يصورنا سنويًا، وكان يحب الموسيقى ويعشق أم كلثوم، ويطلب تسجيلات أغانيها، وأحيانًا يسجلها بنفسه، ويقيم أعياد الميلاد للأولاد سنويًا ويشترى لهم الهدايا.

وكان يسافر، وكل سفره فى مؤتمراته لم أرافقه، وكان يقول لى: «إننا لا نركب طائرة واحدة سويًا ونترك أولادنا».

موقف عبدالناصر من الهدايا

وقالت تحية: «كان الرئيس لا يقبل الهدايا إلا من الرؤساء ويفضل أن تكون رمزية، وقد أهدى بعربات من الرؤساء والملوك وبالأخص العرب، منها: طائرة ومركب وفرس وكلها سلمها للدولة إلا العربة الأوستن السوداء، وظلت باسمه فى قلم المرور، وقد أرسل له أحد رجال الأعمال هدية قيمتها مائة ألف جنيه وكانت من الحلى الثمينة ولكنه رفضها وردها عن طريق كبير الأمناء صلاح الشاهد، ولكنه ردها لصاحبها وقال: «لم أقم بالثورة من مال وحلى ومجوهرات».

وعند زواج ابنتنا هدى قدم أحد الوزراء هدية من الحلى فرفض الرئيس قبولها وردها، وكانت إحدى زميلات هدى فى الكلية ابنة أحد السفراء فقدمت لها ساعة مرصعة فلم يقبلها، وقال لهدى أن تردها وتكتب لها خطابًا رقيقًا لشكرها.

البنات والأولاد والأحفاد

وتحدثت تحية عن أبنائها، بأنها أنجبت ٥ أبناء، التحقت هدى أول مولودة لنا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، وأثناء الجامعة تعرفت على حاتم صادق زميلها بالكلية وتزوجا عام ١٩٦٥، بعد قصة حب وموافقة الرئيس، حيث إنه كان لا يجبر بناته على الزواج من أحد، وبعدها تزوجت منى بعد أن التحقت بالجامعة الأمريكية بقسم الاقتصاد والعلوم السياسية، من أخو صديقتها أشرف مروان، وكان ضابطًا فى القوات المسلحة بقسم الكيمياء برتبة ملازم أول.

وأنجبت هدى الحفيدة الأولى هالة، بينما أنجبت منى الحفيد الثانى جمال، وزارهما الرئيس والتقط معهما الصور، وكان فرحًا بهما للغاية، وكان أولاد الرئيس خمسة أبناء، ثلاث صبيان وبنتين، وأما خالد فالتحق بكلية الهندسة بمجموع ٨١٪، وكان أحيانًا كثيرة لا يرى والده بسبب المحاضرات.

ذكريات تحية مع زوجها

وتحدثت تحية عن ذكرياتها مع ابنها عبدالحميد عندما كان طالبًا فى الكلية البحرية وقالت: «كنا نجلس سويًا وقال ميدو وحشنا، فقلت له إن أهالى الطلبة يزورونهم كل أسبوع، فقال يمكنك أن تزوريه وتقابليه خارج الكلية إذا كنتِ تريدين، وقال نزوره فى حفل التخرح، واطلبى المصور نلتقط معه صورة وهو يرتدى البدلة العسكرية، ولكنه كان مشغولًا وأخذت معه صورة أثناء دخوله البيت فى الحديقة، وتخرج عبدالحميد فى الكلية البحرية فى يوم ٢٩ يونيو عام ١٩٧٢، وحضرت حفل التخرج بدون جمال، وأهدانى قائد الكلية ووزير الحربية صينية من الفضة عليها درع الكلية بالنقش البارز ومكتوب عليها إهداء لى».

النوبة القلبية للرئيس جمال

وفى صيف عام ١٩٦٩، جاءت إلى الرئيس نوبة قلبية ولكنه كان يخبرنا بها، وكان طبيبه المعالج، الصاوى حبيب، قد نصحه بالراحة وعدم استقبال الضيوف إلا أنه رفض، وكان من المفترض أن يذهب إلى الاتحاد السوفيتى ويقابل المسئولين فى موسكو لعمل العلاج بالحمامات، وكان الأطباء السوفيتيون ينصحونه بأن يكرر العلاج، واضطر أن يركب أسانسير من أجله فى البيت لأن الحركة وطلوع السلالم صعب عليه، وانتهت النوبة القلبية الأولى بسلام.

وكان وقت زيارته لرئيس موسكو وقبل عودته عُمل له فحص طبى وأشار عليه الأطباء هناك بأن يذهب فى مكان قريب من موسكو وقالوا له: «إنك لم تستكمل العلاج وقت النوبة القلبية وكان يلزمك وقت للراحة».

اللحظات الأخيرة فى حياة الرئيس عبدالناصر

وأما عن اللحظات الأخيرة فى حياة الرئيس، فكان اليوم مليئًا بالأحداث، بعد أن خرج الرئيس لتوديع الملك فيصل وأمير الكويت بعد مؤتمر عقد فى الهيلتون، ورجع حوالى الساعة الثالثة عصرًا ودخل غرفة النوم، ثم جاء الطبيب الصاوى الطيب، ودخل غرفته كعادته يزوره كل يوم إثنين فى الأسبوع، وجلست معه بعض الوقت وخرجت ثم وجدته يستدعى طبيبًا آخر وثانيًا وثالثًا وأنا فى هذه الحالة أخرج من غرفة لغرفة أبكى، كنت حريصة على ألا يرانى جمال.

حاولت هدى منعى إلا أنهم جاءوا بطبيب ثالث ووجدت الكل يخرج وينزل السلالم فدخلت مسرعة رأيت حسين الشافعى يخرج من الحجرة ويبكى ويقول مش معقول يا ريس، وحضر خالد وعبدالحكيم فى هذه اللحظة، ودخلا للرئيس، ووقفت بجواره أقبله وأبكيه، ثم خرجت من الحجرة لاستبدال ملابسى وألبس ملابس الحداد، ونزلت مسرعة إلى الدور الأول ووجدت الكل، الأطباء والسكرتارية ومحمد حسنين هيكل، وحسين الشافعى، ومحمد أنور السادات، الكل واقف فى الصالون ، والآن أعيش المرحلة الثالثة من حياتى حزينة أبكيه.