رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قرية تزوّر شهادة إثبات نسب جماعية بـ٢٠٠٠ دينار

حكايات عابرة
حكايات عابرة

يقدم كتاب «حكايات عابرة» للكاتب حمدى البطران، الصادر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، ويضم بين دفتيه ٣٤٥ صفحة، زيارة مختلفة للتاريخ المصرى، يتناول فيها أحداثًا متفرقة تمتد لنحو ١٥٠٠ عام، من الفتح العربى لمصر حتى عصرها الحديث. ويستعرض كتاب «حكايات عابرة» أحداثًا مهمة تركت آثارًا عميقة، من خلال ثلاثين موضوعًا عن تلك الفترات التاريخية المختلفة، من الفاطميين إلى الأيوبيين والمماليك حتى العثمانيين والحملة الفرنسية وأسرة محمد على. وتنوعت الحكايات لتشمل: «أول جمهورية فى الصعيد، الفرنسيون والبدو، جريمة فى بلاط الخديو، عائلة تكشف مقبرة فرعونية، ملكة بريطانيا وخادمها الهندى، رحلة كارستن نيبور إلى بلاد العرب»، وغيرها من «الحكايات العابرة».

وفى أولى الحكايات، التى تحمل عنوان «قرية تزوّر تاريخها»، كشف الكاتب عن كواليس تزوير نسب قرية «الحرس» إلى العرب، وهى القرية التى خرجت منها بوادر التعصب الدينى وفقًا لما سجلته كتب التاريخ، موضحًا أن هذا التعصب الدينى يرجع إلى بدء توافد بعض قبائل العرب على مصر، حيث بدأوا يتعالون ويتكبرون على المصريين الأصليين المقيمين فيها.

وسجّل المؤرخون العرب أول محاولة فى مصر للخروج من المأزق الطبقى، عندما حاولت قرية من قرى المحروسة الهروب من وضعها الاجتماعى والعائلى إلى وضع أفضل عائليًا، وهى قرية «الحرس»، التى تقع فى محافظة الشرقية شرقى مصر.

وقال الكاتب عن القرية التى اعتنق أهلها الدين الإسلامى فى القرن الثانى الهجرى: «كان أهل قرية (الحرس) من الفلاحين الأقوياء كعادة أهالى كل القرى فى تلك الفترة، يعملون فى جد واجتهاد، وكان عدد من أبناء تلك القرية يتقنون ممارسة بعض الحرف اليدوية، وكان البعض الآخر من أبنائها يمتازون برغبتهم فى تلقى العلم، وفى تلك الفترة كانت الفسطاط هى العاصمة الإدارية الجديدة للبلاد».

وأضاف: «بالنسبة إلى المستوى التعليمى لأبناء القرية، فالبعض منهم درس العلوم الشرعية، ومنهم من تعين فى القضاء، وتميزت القرية بالثراء الفاحش، ودائمًا ما تتفاخر بأبنائها، وتأخذها العزة والتعالى، حتى سمى البعض من أبنائها قراءات من القرآن باسمه».

ونظرًا لأسوأ العادات التى نُقلت معها إلى مصر، وهى الهجاء والتفاخر، وبدء الشعراء العرب الهجوم على أبناء قرية «الحرس»، وإنكار حقوقهم فى التفوق، سعى أبناء القرية للحصول على سجل أو حجة مكتوبة تفيد بأنهم من سلالة العرب الذين فتحوا مصر، وذلك للتخلص من هجاء الشعراء القاسى الذى يتعرضون له من القبائل التى وفدت إلى مصر من الجزيرة العربية، وجمعت مبالغ طائلة لهذه المهمة.

وذهبت مجموعة من أبناء القرية بعد تشكيل لجنة منهم تتولى المهمة إلى القاضى عبدالرحمن العمرى، الذى تم تعيينه فى عهد الخليفة العباسى هارون الرشيد عام ١٥٨ هجريًا، وبعد تفكير طويل من طلبهم، عرض عليهم أن يسافروا إلى بغداد ويعرضوا الأمر على الخليفة هارون الرشيد، للحصول على موافقته بأن تصبح قرية «الحرس» عربية الأصل والمنشأ.

وقبل أن يسافر أعضاء اللجنة إلى بغداد كان عليهم أن يحصلوا على وثيقة أو مستند يدعمون به صدق ما يدّعون ويقدمونه إلى الخليفة، ليثبتوا أحقيتهم فى أن يكونوا «عربًا أصليين» حتى لو بالتزوير.

وتنفيذًا لذلك ذهب اثنان من أعضاء اللجنة إلى كاتب عمومى يدعى «عبدالكريم القراطيس»، كان يجيد فن التزوير، طلب منهم ٢٠٠٠ دينار مقابل أن يعطيهم المستند المزور، وبالفعل سلمهم المستند مدونًا فى وثيقة منسوب صدورها إلى قاضٍ سابق وربما توفى، وصيغة هذا الحكم تقضى بنسب أهل قرية «الحرس» إلى «حوكمة بن أسلم بن الحاف بن قضاعة».

وبعد حصولهما على الوثيقة المزورة، توجها إلى كاتب ديوان القاضى السابق، المفضل بن فضالة، ودفعا ١٠٠٠ دينار إلى موظف الأرشيف، ليضع الوثيقة ضمن وثائق الأحكام التى أصدرها «المفضل».

بعدها، سافر الثنائى إلى بغداد لمقابلة هارون الرشيد، ومثلا أمامه وعرضا قضيتهما ببيان الحكم وبلاغة ومنطق أدهش الخليفة، واقتنع بأن أبناء القرية عرب خلصاء، وأكدا له فضلًا عن ذلك أنهما حصلا على حكم سابق يفيد بأنهم عرب، وأن الحكم مودع فى ديوان القاضى السابق، وبناء على ذلك، طلب الخليفة من كاتبه أن يكتب إلى قاضيه فى مصر أمرًا بتسجيل أبناء قرية «الحرس» فى قائمة العرب الوافدين إلى مصر.

ثم عاد عضوا اللجنة بالخطاب من بغداد موقّعًا من الخليفة هارون الرشيد، وتوجها به إلى القاضى عبدالرحمن العمرى، الذى بموجبه شرع فى عقد مجلس القضاء لمباشرة القضية، وطلب من وفد القرية دليلًا آخر يدعم الوثيقة على أنهم من العرب، وكان سهلًا، لأنه شهادة أو إقرار يشهد فيه عدد من العرب ويقرون بأن أبناء «الحرس» منهم، وبالفعل تم النطق بالحكم وتسجيله فى وثائق المحكمة.

ومن الحكايات التى تناولها الكاتب أيضًا، فى صفحة ٢٠، وتحت عنوان: «أول جمهورية فى الصعيد»، حديثه عن قبيلة «هوارة» و«شيخ العرب همام»، قائلًا إن «قبيلة هوارة تمركزت حول مدينة جرجا، التى كانت ولاية كبيرة أيام المماليك، ولها فروع تمتد من جرجا شمالًا إلى المنيا، وبفضل ما تمتع به الهوارة من ثراء تمكنوا من السيطرة على الصعيد، وتمردوا على الحكومة».

وأضاف الكاتب: «ثورات الهوارة فى العصر المملوكى بقصد التطلع إلى الحكم، وثورة أخرى تحت زعامة قبيلتى هوارة وبنو سليم، قامت بها قبائل البدو والعربان فى مصر عام ٦٥١ هجريًا- ١٢٥٣ ميلاديًا، بزعامة الشريف حصن الدين بن ثعلب الذى تم الحكم عليه بالشنق فى عهد بيبرس الأول».

وانتهت تلك الثورة إلى إعلان «استقلال الصعيد»، واستمر الاستقلال لمدة ٧ أعوام، ومنع الشريف حصن الدين بن ثعلب جنود بنى أيوب من تناول الخراج، وصرّح هو وأصحابه: «إننا أحق من المماليك العبيد، وقد كافأنا خدمنا بنى أيوب وهم خوارج خرجوا على البلاد».

واجتمع العرب مع الأمير حصن الدين بن ثعلب وبايعوه وهو بناحية «دهروط صربان»، ودخل معركة معهم وانتهت المعركة بهزيمته وفرار أصحابه، فطلب الشريف الأمان من الملك المعز، لكنه انخدع، وشنقهم المعز جميعًا، وبعث بالشريف «حصن» إلى ثغر بالإسكندرية، فحبس بها وسلّم لواليها الأمير شمس الدين محمد بن باخل.

وتعتبر «الهوارة» أول قبيلة عربية تعلن «استقلال الصعيد» أو «الحكم الذاتى» بلغة السياسة، وفى عام ١٣٠١ قامت ثورة فى مدينتى منفلوط وأسيوط، وعطّل عرب الصعيد فيها جمع الأموال، وفرضوا ضرائب على أصحاب الحرف، وسموا زعماءهم بأسماء مملوكية، وقد أدرك المماليك خطورة الثورة فأرسلوا جنودهم لمحاربتها، وانتصروا على المتمردين، وجردوهم من أملاكهم.

وفى العهد العثمانى، فرض «الهوارة» نفوذهم على الصعيد، وتولى شيوخهم الحكم فى البداية، وبعدها تولوا إدارة معظم أراضى الصعيد بالالتزام، ما جعل لهم نفوذًا، وسيطرة كبيرين فى ظل السيادة العثمانية.

وصحب زيادة نفوذ «الهوارة» توسيع إقليم جرجا، وتوحيد أقاليم الصعيد كلها من المنيا إلى أسوان، تحت إمرة حاكم جرجا، وأصبحت «ولاية جرجا» تشمل أراضى الصعيد كلها.

وفى عام ١١٨٣ نصّبت قبيلة «الهوارة» شيخها شيخ العرب همام الهوارى سلطانًا مستقلًا فى صعيد مصر حتى المنيا، وبذلك كان أول حاكم مستقل للصعيد، وتمكن من فرض سيطرته على كل بلاد الصعيد بفضل شخصيته، وأصبح مصدر السلطة الوحيدة المستقلة فى صعيد مصر.