رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكرة وتجارة التعصب

بين حين وآخر تقفز إلى ذهنى أحداث فيلم «الدرجة الثالثة» للكاتب المبدع ماهر عواد الذى لعب بطولته العظيمان أحمد زكى وسعاد حسنى، والذى تدور أحداثه على مستويين أحدهما رمزى والآخر واقعى.. فى الأحداث نرى كيف يستغل كبار المسئولين فى الأندية حماس مشجعى الدرجة الثالثة وصدقهم وقوة مشاعر الانتماء داخلهم للإثراء وعقد الصفقات وتحقيق المكانة وحيازة الثروات.. إلخ، وأظن أن أى فن جيد هو ابن الواقع، وأظن أيضًا أن ما صوره ماهر عواد بطريقة الفانتازيا والرمز يتكرر أمامنا يوميًا عبر مشاهد مختلفة يستغل فيها مسئولو الأندية حماس جماهيرهم لتحقيق مكاسب صغيرة أو كبيرة، مغذين مشاعر الكره والتعصب لدى الجمهور بدلًا من تغذية مشاعر الانتماء والتسامى والبحث عن المتعة الكروية وتكريس قيم الاستعداد لملاقاة الخصم من خلال التدريب الجاد والتخطيط المسبق والأداء الجيد.. ثم التعامل الصحى مع النتائج.. فإن كانت النتيجة هى الانتصار فإن ذلك يكون لإعلان الفرحة دون إيذاء الخصم أو الشماتة فيه أو إهانته.. وإن كانت النتيجة هى الهزيمة يكون قبول الهزيمة بالروح الرياضية والاعتراف بالتقصير إن كان موجودًا وتحليل الأداء للوقوف على الثغرات وسدها فى قادم الأيام.. إن كرة القدم هى ميدان مصغر للسياسة وللحرب ووسيلة سليمة لتنفيس رغبة الإنسان فى الصراع والقتال.. وقد يتحاذق بعضهم ويقول لك إن عبدالناصر أراد استبدال الانتماء للأندية بالانتماء الحزبى وإن ذلك أدى لكذا وكذا.. ومن يقول هذا جاهل لا ريب فيه.. لسببين.. أولهما أن المصريين عشقوا كرة القدم منذ تعلموها من الإنجليز فى بدايات القرن الماضى.. ونقل المباريات عبر التليفزيون عقب افتتاحه هو الذى أدى لشيوع الولع باللعبة وهو ولع كان سينتشر، سواء قامت ثورة يوليو أم لا.. أما الدليل الثانى على جهل القائل بحلول كرة القدم محل الأحزاب، أن التعصب للأندية والجنون فى تشجيعها على أقوى ما يكون فى إنجلترا.. البلد الذى اخترع الديمقراطية الحزبية أساسًا والذى تتبادل فيه الأحزاب الحكم كل عدة سنوات.. وبالتالى فإن كل محاولة لإضفاء طابع سياسى على صراعات الأندية فى مصر هى محض ادعاء وتحذلق.. فلا أحد ينحاز لناد ضد آخر لأسباب لها علاقة بمزاج التشجيع أو ما إلى ذلك من ادعاءات.. لكن الصحيح أن الدولة تتدخل لضبط أداء مؤسسات المجتمع إذا مالت نحو التطرف أو التعصب أو خالفت رسالتها فى إسعاد الجماهير وإمتاعهم.. ولنتفق جميعًا أن العالم كله فى ظرف اقتصادى ضاغط.. وأن المواطن المصرى ينال نصيبه من هذه الضغوط وبالتالى فهو ليس فى حاجة لضغوط نفسية جديدة يصبها عليه مسئول كروى فاشل.. هنا أو هناك.. يرفض أن يقبل الهزيمة بروح رياضية ويحول المنافسة الكروية لخصومة شخصية ويشحن جماهير ناديه ضد الآخرين ويغذى فيهم نزعة التعصب والتطرف والكراهية.. ثم نجد رئيسه الأعلى وقد وقع فى نفس الخطأ دون أن يدرك دوره كرمز رياضى وشخص عام فى تخفيف الاحتقان بين الجماهير ونشر روح السلام والمنافسة الرياضية بحيث تتحول المباريات إلى متعة للمشاهدين يخرجون مشاعرهم أثناءها لا بعدها ويفرحون بالنصر فيها كما يقبلون الهزيمة بنفس المنطق.. أما ذلك المناخ المريض والمستمر من اتهام الحكام بالانحياز أو مهاجمة المنافسين أو رفض مصافحتهم بعد الهزيمة منهم أو إشعال نيران الغضب لدى الجماهير أو زيادة الاحتقان فى الشارع فهى سلوكيات غير مسئولة سببها الأول نقص الوعى والتعليم الجيد لدى الكثير ممن يديرون الأندية فى مصر ونظرتهم القاصرة للكرة.. وعدم فهمهم لدورها كوسيلة للترفيه عن الجماهير والتخفيف عنهم وتلقينهم القيم الإيجابية بشكل غير مباشر.. ولا شك أن المسئول الذى لا يفهم هذا هو شخص جاهل ومضر للمجتمع وهو لا يقل فى ضرره هذا عن الإرهابيين والمتطرفين والهاربين خارج البلاد إن لم يزد عنهم.. ولا شك أن ما وصلت إليه الكرة فى مصر على جميع مستوياتها يستدعى وقفة إصلاح جادة أساسها إسناد عملية إدارة الكرة فى مصر لشخصيات تتسم بالوعى والمستوى التعليمى والثقافى الجيد.. حيث نصطدم جميعًا بحقيقة أن مَن يديرون الكرة فى مصر هم جميعًا من اللاعبين السابقين وهم للأسف لم يكملوا تعليمهم لأنهم كانوا مشغولين بلعب الكرة.. ولم يسمح لهم الوقت بإكمال تعليمهم بعد أن أصبحوا رؤساء اتحادات وأندية وإعلاميين ومعلقين كرويين.. وهذه فى حد ذاتها كارثة كبرى.. حيث ينشر معظمهم قيم التعصب، وكراهية الخصم، وادعاء المظلومية، وتبرير الأخطاء، وعدم الاعتراف بالهزيمة، والدفاع عن النادى الذى ينتمى إليه، سواء كان جيدًا أم سيئًا ولى عنق التحليل الفنى ليخضع لتعصبه لناديه.. وهذه كلها قيم سلبية تنتقل لملايين المواطنين يوميًا فتطبع حياتهم فى العمل وفى المنزل وفى الشارع لنغرق جميعًا فى مستنقع التخلف أكثر وأكثر.. فى حين أن اللحاق بركب التقدم يستدعى منا نشر قيم معاكسة تمامًا للقيم التى ينشرها إعلاميو الرياضة ومديرو الأندية من الاعتراف بالخطأ والتحليل الموضوعى وقبول الهزيمة والسعى للنصر من خلال العمل والتدريب.. إلخ، وأظن أنه آن الأوان للتغيير من داخل الأندية والمؤسسات الكروية نفسها، مما يتيح الفرصة لأجيال أكثر شبابًا وتعليمًا ولنمط أكثر احترافية واستنادًا إلى العلم.. وإلا فإن النتيجة ستكون سيئة على الجميع.. أو هكذا أظن.