رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«النبيذة» لـ إنعام كجه جي.. رواية المآسي العربية الكبرى

انعام كجه جي
انعام كجه جي

استطاعت الكاتبة العراقية إنعام كجه جي، أن تُعزِّز مكانتها الأدبية بعد روايتها الأهم النبيذة، بعد عدد من الروايات المهمة مثل سواقي القلوب وطشاري، والحفيدة الأمريكية. 

بدت كجه جي معنية بالشخصية العراقية وهوية العراق التاريخية وما مر به، كما في النبيذة، من تحولات سياسية كبرى منذ أربعينات القرن الماضي حتى الوقت الراهن. 

تنطلق الرواية من العاصمة الفرنسية، باريس، حيث شخصيتان عراقيتان، تاج الملوك أو مدام شامبيون، الصحافية العراقية التي عاشت في عراق الأربعينيات من القرن العشرين، ووديان الملاح التي عاشت رخاء العراق ومأسيه منذ سبعينيات القرن العشرين، فتستعيد كلٌّ منهما ذكرياتها عن المكان الأول، في لحظة حساسة، فيما عُرِف بثورات الربيع العربي. تحكي "وديان"، عن سبب رحيل تاج الملوك عن العراق في أواخر أربعينيات القرن العشرين:

أغفت تاجي عبد الحميد على حرير واستيقظت على خيش. ولولا معاهدة بوتسموث بين العراق وبريطانيا لما انحرف مصيرها، ولا كانت هناك مدام شامبيون. سارت أمورها على ما يرام. جرّبت أن تكون شابة حرّة في مجتمع مأسور. لها مجلّتها واسمها وعلاقاتها مع القصر ونوري باشا. تحفظ شروط اللعبة ولا تحاول أن تتمرد عليها. التمرد لعبة مراهقين. وهي لا تريد أن تفقد ما حصلت عليه برفّة رمش. لا يزعجها أن تتسلم بعض الافتتاحيات والمقالات التي تأتيها جاهزة من مديرية الدعاية. تتوافق معها في الرأي. تُلقي عليها نظرة سريعة، وترسلها إلى المطبعة، هم يقومون بشغلهم وهي تقوم بشغلها.

فيما يتبدى أنه مع أول انحراف لتاجي عن الخط المرسوم لها وإملاءات السلطة ونفوذ أجهزتها الأيديولوجية، رغم ممالئتها لهم، بتضامن تاجي مع الشعب وانضمامها إلى ثورته الرافضة تجديد وتمديد معاهدة بورتسموث بين بريطانيا والعراق التي كانت ستكبل العراق وتثقل كاهله بالتزامات تجاه المستعمر الإنجليزي- فقد أدى ذلك إلى غضب النظام الملكي الحاكم عليها وسد أبواب العمل بوجهها ووقوعها تحت خطر الملاحقة والاعتقال ما أدى بها إلى مغادرة العراق، فيتكشف لنا أنّ الشكل الديمقراطي لنظام الحكم وإتاحتة هامش حرية للتعبير عبر شكّل مؤسساتي ما هو إلا "لعبة"، وأنَّ المجتمع العراقي كان لايزال تحت الهيمنة الاستعمارية وآليات السلطة التي ترفض خروجًا عن الأدوار المرسومة لمؤسسات الدولة والقائمين عليها.

وفي رواية النبيذة يعاين الفلسطيني، منصور البادي، الذي أحبته تاج الملوك عندما التقيا في العاصمة الباكستانية، كراتسي، فقد الوطن، عبر تاريخ موجع:

تاريخ فقير الخيال. يكرر نفسه ولا يملّ. يحمل الصرّة الثقيلة ويعبر بها السنوات. يهترئ القماش وتخبو التطريزات. ينقلها من قرن إلى قرن. يذهب إلى الجامعة العربية. الأمم المتحدة. مجلس الأمن. كامب ديفيد. البرلمان الأوربيّ. الكيلو 101. طابا. وادي عربة. جنيف. مدريد. أوسلو. حول العالم في مئة عام. نَفَق بلا ضوء. 

في تأملها حركة التاريخ ودورة الزمن فيما يخص مآلات المأساة الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي تخلص الذات إلى تناسخ الأزمان وتكرارية التاريخ، رغم المراوحة عبر الأماكن بامتداد العالم، لتشعر بالوجود في نفق مظلم، بما يعني فقدان الرؤية لما يًمكن فعله حلاً لتلك الأزمة التاريخية بتراكماتها الثقيلة، وفيما يتبدى من تَمثُّل الذات لطول أمد الصراع العربي الإسرائيلي فإنّ الصوت السارد يستعير في محاكاة تهكمية (بارودي) عنوان كتاب "حول العالم في 200 يوم" للكاتب أنيس منصور، ليمسي حول العالم في مئة عام، تعبيرًا عن سخرية مريرة من تكرارية التاريخ وإعادة الزمن نفسه وطول أمد القضية، رغم تعدد الأماكن في محاولات حل المشكلة الفلسطينية. 

37725b91-eac1-443b-9c78-dccada81889a

وتستعيد وديان الملاح، عازفة الكمان، بغداد السبعينيات، بما فيه من رخاء اقتصادي وفني وحراك اجتماعي وشمولية سياسية:

عازفة أولى للكمان في الفرقة السيمفونيّة. تمارس فنّها الجميل في سبعينيات بغداد الجميلة. يذهب الرجال والنساء إلى قاعة الخلد مرتدين أزياء السهرة. سادة وسيدات كما كنا نرى في الأفلام. أغلبهم من آباء التلاميذ وأمهاتهم. بينهم مديرون عامّون من وزارات الإعلام، التخطيط، الخارجية، وحتى الدفاع. يأتي وجهاء معتقون من بقايا زمن لم أعرفه، يسميه أبي العهد البائد، وأثرياء جدد طفوا على سطح المجتمع. ريفيّون تمدّنوا بفضل الصفقات. ينقل الواحد منهم كذا طن رمل ويقبض كذا مليون دينار. حققوا نقلة كبيرة حين باتوا يخرجون مع زوجاتهم الثواني والثوالث. شابّات جامعيّات سافرات مُخشّلات بالذهب. يصبغ الرجال شيباتهم وشواربهم ويسهرون في الأمباسي ومطعم فاروق. صبغة مستوردة ذات لون أسود حالك تباع في سوق الثلاثاء. يُقبل عليها المقاولون وأعضاء الحزب. يشترك الجدد في النوادي الاجتماعية، ويأتون إلى حفلاتنا الموسيقية من باب الوجاهة. يحبّون إيقاعات الخشّابي ورقص الكاولية ويكرهون السمفونيّات. يعتبرون الإصغاء إليها تعذيبًا. يشخرون من أول ربع ساعة، ثم ينتبهون عندما يعلو التصفيق. 

تستعيد الذات زمنًا فارقًا، بما فيه من تحولات سيسولوجية وحراك طبقي، حيث صعود طبقة من البورجوازية المتسلقة التي حققت مكاسب مادية ضخمة لازمها صعود سريع وارتقاء درجات أعلى من السلم الاجتماعي، إذ كان اللافت في صدارة المشهد الاجتماعي الممَّثَل في جمهور الحضور لحفلات الموسيقى السيمفونية بروز طبقتين هما التكنوقراطيون والبورجوازيون الجدد، فيتبدى حرص الطبقة الأخيرة على الانخراط في ممارسات ثقافية واجتماعية من باب الوجاهة لا أكثر، ما يكشف زيفً اجتماعيًّا، مثلما يتبدى من عدم استعيابهم الفن النخبوي كالموسيقى السيمفونية، رغم تظاهُّرهم بالحرص على متابعته، بما يناقض ذائقتهم ووعيهم الثقافي المُنشأ على تلقي الفنون الشعبية والدنيا، ما يحدث نوعًا من الانفصام والازدواجية.

من ناحية أخرى يكشف هذا الاستدعاء الحالة السياسية وقتئذٍ، حيث يبدو في صدارة المشهد الاجتماعي أعضاء قيادة الحزب، دون تسميته، وإن كان المقصود، بالطبع، هو حزب البعث، لكن تجاوز ذكر اسم الحزب يكشف عن هيمنة ذلك الحزب على مقاليد الأوضاع وكأنه قد ألغى أو همّش غيره من الكيانات السياسية في ظل نظام حكم شمولي وهيمنة مطلقة لقطب أحادي.

ويُلخِّص المقطع الختامي من الرواية، المروى عبر صوت وديان الحنين البالغ لصاحبتها، تاج الملوك، للوطن في عز عيش آمن في المهجر الباريسي:

. تمد رقبتها وتلقي نظرة على التلفزيون. الكُفر العراقيّ على كل الفضائيات. ترتجل بصوتها الأعجوبة موالًا يبدأ خافتًا ثم يصعد:

-أوف يابا يابا يا يابا...

الضيم بديار الرَبعْ ونسة...

والموت ببلاد الغُرُب وكسة... يا يابا...

أخرج إلى الشرفة وأغلق الباب الزجاجي ورائي. ينقطع صوتها عني. أتأمل نوارس البحيرة وصفوف السرو والطبيعة الموجعة من فرط بذخها. مشهد بانوراميّ بديع تنقصه نخلة. كم يخسر الجمال لو اكتمل!

يبدو تتمسّك الذات بوطنها حتى في نكباته، وتأتي كلمات الموال لتبرز ارتباط الذات الشديد بمكانها الأول حتى لو كانت تعاني فيه اغترابًا أو "الضيم"، وكأنَّها الذات ترفض الموت خارج بعيدًا عن وطنها، ورغم ثراء مظاهر الطبيعة الباريسية، يتسلل الشعور بشيء ما يفتقده المشهد البانورمي وهو "النخلة"، رمز العراق، الذي لا تستغني الذات عنه، مهما بلغ المكان الآخر من جمال.