رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حادثة يوم الخطوبة».. تنويعات على فساد التسعينيات

حادثة يوم الخطوبة
حادثة يوم الخطوبة

فى روايته الجديدة «حادثة يوم الخطوبة» الصادرة حديثًا عن دار «دوِّن» للنشر والتوزيع، ينسج أحمد مدحت سليم، عالمًا متكاملًا يمتدح التفاصيل الصغيرة. تدور الرواية حول فترة حكم الرئيس مبارك وتداعياتها وبينما تشق كل شخصية من الشخصيات الأربع «مايسة» و«سامر» و«صابر» و«قاهر» طريقها، يلتقون فى النهاية لرسم صورة عن الفساد وتداعياته وأثره على الشخص والمجتمع.

وكأن هذه الشخوص ترمز للمجتمع بالكامل، فقاهر من اسمه هو الفاسد الذى اعتاد زيارة المواخير واستخدام سلطته بطرق غير مشروعة، وسامر الشخص الطيب النازح من الريف ليفاجأ بقهر المدينة، ومايسة التى عانت من ظروف قهرية جعلتها تتلمس الحب فى مكالمة هاتفية مع سامر، وصابر الضحية الذى يحمل على كاهله ثمن شهامته، وكان من الطبيعى أن يدفع ثمن ذلك بموته.

اختار «سليم» أن يترك روايته بلا نهاية، مفتوحة تمامًا على مصراعيها، كأنه يؤكد أن تلك الشخصيات وغيرها لا تزال متأثرة بتوابع هذا الفساد الذى استشرى فى جسم المجتمع مثل دمّل قبيح متهيج.

عمد الكاتب فى روايته لذكر أسماء الشخصيات على رءوس الفصول حتى يضمن جذب انتباه القارئ، وألا تضيع الحكاية فى سرد مطول لا يعى القارئ منه شيئًا، ومفاد تلك التقنية أنه يمنح القارئ جرعات قليلة عن كل شخصية حتى تتكامل رؤيته للشخوص وتحولاتها وأزماتها ورؤيتها للعالم.

أراد «سليم» أن يروى حكايات شخوصه للقارئ كأنه يراقب من خلال عين كاميرا، ترصد أدق التفاصيل، وتكفل الراوى العليم بسرد جانب كبير من حياة الشخوص فى الماضى ليقف القارئ على نتاج رؤيتهم للمستقبل، وبذلك يصبح الفعل الجنونى كشرب مايسة الخمر ونزولها فى المطر لتقابل صابر- كما هو مرتب قدريًا- فعلًا عاديًا برغم جنونه وجنوحه وجموحه أيضًا. الراوى فى رواية «حادثة يوم الخطوبة» راوٍ عليم، ولكنه يأتى على عكس ما عهده القارئ فى عالم الرواية، إذ إنه هنا مشارك بقوة فى الأحداث ويدخل بعبارات أيضًا يوجهها أحيانًا للشخوص وأحيانًا للقارئ، وبالتالى زادت الشخوص، ليسوا أربعة فقط، إنما ستة بإضافة الراوى العليم والقارئ أيضًا. هناك عبارات يوجهها الراوى للقارئ كأنما يسرد له حكاية شفهية ويقف قليلًا ليقول له: «هذا كلامى أنا وليس الشخصية»، ثم يعود مرة أخرى ويقول: «هذا كلام الشخصية وليس كلامى»، وبالتالى فالقارئ الموجه له الخطاب فى الرواية هو قارئ مشارك فى الحدث بفعل القراءة نفسه، وكأن كل قارئ للعمل شخصية سادسة أضافها سليم لروايته، بالضبط كما تحول الراوى من راصد لأفعال الشخوص لمشارك فيها وبقوة، وبالتالى يتدخل أحيانًا ليعيد مسار الحديث لما يعرفه عن الشخوص وليس كما تعرفه الشخوص عن نفسها. إذا كانت الكتابة كلها ستدور فى يوم واحد وهو زمن الرواية، فلا بد للقارئ أن يعرف الخلفية أو الظهير الذى أدى لكل تلك التفاصيل التى أظهرها يوم الخطوبة، وبالتالى كان يتحتم على الكاتب منحه هذه التفاصيل حتى يؤمن بمنطقية وجدوى ما سيحدث مستقبلًا، ومن هنا دمج أحمد مدحت سليم طريقتين للحكى، الأولى كانت حين يتعلق الأمر بماضى الشخوص، فكان الراوى العليم يتوجه هنا للشخصية وكأنه يتوجه لها بالخطاب عن ماضيها الذى لو سردته لربما ضاعت بعض تفاصيله، فيسرده عليها باعتباره العارف ببواطن الأمور وما خفى على الجميع، حتى على الشخصيات نفسها، فيقول مثلًا: «بنات لم تقابلى مثلهن من قبل، ولا مثل موضوعاتهن، لهن آباء مثقفون وأمهات جادات ترينهم فى اجتماعات أولياء الأمور فيعصرك فزع مجهول المصدر». وهكذا كأنه مدرس يشرح لطالب يقف أمامه فى استكانة، ويتغير شكل الخطاب بعيدًا عن الماضى حين تكون الأحداث فى زمنها الآنى، ويتغير شكل الراوى ليرصد الأحداث أو حين يتدخل ليشرح للقارئ. تدخل الراوى هنا، لا تشعر أنه إقحام فى العمل أو أنه سيبعد القارئ عن التركيز فى الأحداث، وإنما كان مكملًا وشارحًا، كأنه هو نفسه جزء من الأحداث ليس منفصلًا عنها، ومن هنا جاء تدخله مقبولًا كأن له دورًا خفيًا فى إعادة ترتيب الأمور والأحداث والشخصيات، وكأن الشخصيات نفسها تدرك هذا بعيدًا عن بعضها فلا تتذمر لتدخل الراوى، ربما لمعرفتها أنه يعيد الضبط والاتزان.