رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

احتفالية العندليب 7

منير عامر يروى صفحات من مذكرات عبدالحليم عن القرية والحب والسياسة

عبدالحليم
عبدالحليم

فى كتابه الصادر عن روزاليوسف تحت عنوان «حياتى.. بقلم عبدالحليم حافظ»، روى منير عامر، الكاتب الصحفى الكبير، الكثير من الأحداث التى راجعها حليم بنفسه ودققها تدقيقًا كأنما كان يختار أغنية من أغانيه، ولهذا السبب امتلأ الكتاب بالكثير من الأحداث التى لم توجد فى مذكرات أخرى مثل التى كتبتها الناقدة الكبيرة إيريس نظمى، ومثل التى نشرتها مجلات أخرى من بينها الكواكب وغيرها.

فى مذكرات عبدالحليم حافظ التى دونتها الكاتبة الصحفية والناقدة إيريس نظمى ذكرت أن أول قصة حب فى حياته كانت من سيدة متزوجة فى الإسكندرية، وفى كتاب «حياتى» يذكر منير عامر، على لسان حليم، أن أول قصة حب كانت من بنت الجيران التى كان يلعب معها الكوتشينة فى بيتهم، وإمعانًا فى السرية أطلق عليها حليم فى كتابه اسم «علية»، وعلية هى أخت حليم، وكأنما يشير إلى درجة الارتباط ببنت قرية الحلوات، يقول حليم عن قصة حبه: «هى بنت الجيران، واحدة من بين ستة أبناء لأب مبسوط، وتملك الآن وقت كتابة هذه المذكرات خمسة أبناء، كان البيت بجانب البيت، ولعبة الكوتشية يحضرها الصبيان والبنات، والشايب لعبة فيها واحد ملك والثانى وزير والثالث قاضى الكوتشينة، وكنت حينها أحتار فى الأمنيات، هل أكون أنا الملك لأحكم عليها، أم أكون المتهم لتحكم علىّ، وبين الأمنيتين كنت أجد قلبى يدق، علية الحبيبة تلاحظ ما فى عيونى».

لكن صراع الصغار مع الزمن وانتصار الأخير يجعلهم ينتقلون من طور الصبية للشباب، وهنا تحدث المفارقات، فلا لعب ولا كوتشينة تضمن للنظرات أن تستمر صوب العيون: «كبرت عليّة، وأصبحت ناضجة، لم يقل والدها لى شيئًا، لكنه لم يرحب بى كعادته، أحسست أن هناك شيئًا ما قد حدث، شيئًا سيفصل بينى وبين علية، قال لى خالى: (بنات فلان أصبحن كبيرات ولا يجب أن تلعب معهن)، وكان ذلك معناه حكمًا بألا أدخل بيتهم مرة أخرى، وقالت لى أختى إننى لا يجب أن أفكر فى بنت جارنا مرة أخرى». وإذا كان الباب فى الباب فلا بد للوجوه من أن تتقابل مرة أخرى: «قابلتها صدفة، كانت أمامى مباشرة، لم أعرف هل أمد يدى إليها أم أنها كبرت، ووجدت فى عيونها ضحكة لا أنساها أبدًا، كانت بالتحديد عبارة عن موسيقى حلوة، لا أعرف كيف أصف هذه الضحكة، قالت لى وهى أمامى: (إزيك، وحشتنا، مش حتغلبنى تانى فى الشايب؟)، فقلت: (نفسى ألعب معاكى تانى لكن..)، فردت: (لكن هو حد شاغلك ولا إيه؟)، فقلت: (أبدا، بس يعنى..)، كل الكمات كانت مبتورة، وكان الحب هو الذى يتحدث، ولا يجد لغة تعبر عنه، وكأننا اتفقنا على اللقاء، وكثرت لقاءاتنا، وكانت خدودها تحمر عندما تقابلنى».

ما كتب على حليم وما سطره القدر كان يجعل هناك حتمية للوداع: «عندما ودعتنى كتبت (لا إله إلا الله.. محمد رسول الله)، ومزقت الورقة نصفين، أعطتنى نصفها واحتفظت بالنصف الآخر».

 

رضعت من 300 امرأة.. وساهمت فى إنشاء جامعة الزقازيق

ذكر إسماعيل شبانة فى مقال له بمجلة «الكواكب» أن عبدالحليم رضع من ٢٠٠ امرأة، بينما ذكر حليم فى مذكراته أنه رضع من ٣٠٠ امرأة فى قريته الحلوات، وبرغم حجم العدد الكبير على قرية لكن هذا كان يحتم عليه الحرص فيمن يحبها، فالحلوات كلها إخوته، لكن الرضاعة كان لها تأثير آخر حسبما يرى حليم: «من تموت أمه فى الحلوات لا يرضعونه إلا بعد انتهاء ليالى المأتم الثلاث، ويقال إن الذى لا يرضع من ثدى أمه يكون عرضة للأمراض، أنا مع هذه الفكرة وأؤمن بها كثيرًا».

ذكر حليم أن أصل عائلة شبانة يرجع لجزيرة العرب، وكان للجد الأكبر مولِد فى الحلوات، ضجيج وغناء وموسيقى: «هل أصل الغناء فى أسرتى قادم من الشيخ الكبير؟، لا أعرف»، لكن المولِد كان مطربًا وغنائيًا وساهم فى تكوين عبدالحليم.

كما يشير إلى أن أول مأساة حدثت فى حياته كانت بعد تعلمه العزف على آلة الأوبوا، وكان أول عازف لها فى مصر: «كان كمال الطويل يعرف أن هناك حزنًا خاصًا فى حياتى، حزنًا جديدًا تمامًا، فقد كنت الأول فى دراسة آلة الأوبوا، وكان المفروض أن أسافر إلى إيطاليا لبعثة لدراسة هذه الآلة، ولكن الوساطة فى معظم الأحيان تسبق المجهود، سافر واحد غيرى».

فى عودته الأولى لقريته الحلوات بعد أن اشتهر وذاع صيته وأصبح الراديو يذيع أغانيه قوبل عبدالحليم بترحيب حار: «قابلنى شيخ المسجد وقال لى: (طالع لجدك، الشيخ شبانة، كان يقرأ القرآن فتسكت له الطير)، وطالبنى الشيخ بأذان العصر فصعدت للمأنة وأذنت وصليت العصر معهم».

ويذكر العندليب الأسمر أنه وقف يغنى فى الزقازيق، وتم جمع تبرعات لتقوم أول جامعة فى الزقازيق، وكان ينظر لأطفال الحلوات من الأجيال التالية، لن يضطر فيهم أحد لانتظار الأتوبيس ولا لسكنى الملاجئ وغيرها من الأمور التى عكرت صفو حليم.

اقترضت خمسة جنيهات من تحية كاريوكا.. وكنت سببًا فى لقاء قطبى الموسيقى

كان الطويل هو السبب فى توجه حليم للغناء، وربما بدونه لم نكن لنرى «كامل الأوصاف» أو «قارئة الفنجان»: «قال لى كمال الطويل: أنت تملك صوتًا شجيًا، لا بد أن تقتحم مجال الغناء، كان يشعر أن هناك شيئًا قادمًا، كان لديه إحساس بأن دنيا الفن لا بد أن تضم صوتًا جديدًا، ولا زلت أذكر كلمته الأولى: اسمع يا عبدالحليم، أنت عندك استعداد رائع للغناء».

بعد نجاح حليم فى أغنيته تقدم له المعلم صديق، أشهر متعهد حفلات، وقدم له خمسة جنيهات على أن يحيى حفلًا فى الإسكندرية، وفشل الحفل فشلًا ذريعًا وهاجم الجمهور حليم وطالبه بالنزول، وهنا أخرج حليم الخمسة جنيهات، التى هى كل ما يملكه، وأعطاها لـ«صديق» عوضًا عن فشل الحفلة: «ذهبت للفنانة تحية كاريوكا وقلت لها: (معاكى خمسة جنيه سلف)، وأخرجتها وقدمتها لى، وتخانقت بسببى مع المعلم صديق، وحين عدت للقاهرة فوجئت بأن كمال الملاخ كتب عنى، لم أكن أعرفه، بعدها كان هناك كامل الشناوى: (هذا صوت صادق ومشحون بعاطفة حلوة ولها شجن)».

فى يوم طلب موسيقار الأجيال من عبدالحليم حافظ أن يمضى معه عقدًا، وقال إنه سيمنحه ٢٠٠ جنيه بخلاف الناقدة إيريس نظمى التى قالت إن العقد كان ٥٠٠ جنيه، ولم تذكر نظمى أن حليم قام بتعديل كل شروط العقد: «كان من شروط العقد أن تختار لى شركة الأسطوانات الكلام الذى سأغنيه، فقلت لا، وتم تعديل الشرط، وفى عقد شركة الأفلام أن يلحن لى عبدالوهاب كل الأغنيات فقلت لا وأضفت الموجى والطويل».

ويذكر حليم أنه كان سببًا فى التقاء قطبى الغناء والموسيقى، أم كلثوم وعبدالوهاب: «أفرح لأنى استطعت أن أقنعهما بأنه من الظلم ألا تغنى أم كلثوم من ألحان عبدالوهاب، أفرح كلما غنت أم كلثوم على موسيقى عبدالوهاب، لأن هذا كان اقتناع اثنين من العمالقة برأى بسيط اقترحته أنا».

 

أنقذت الموجى من ورطة.. وشكوت لعبدالوهاب نكران الجمهور

يسرد حليم قصة الموجى والخلاف الشهير بينه وبين الموسيقار محمد عبدالوهاب: «هو من أصر على تصميم زى للفرقة الماسية، وكان يجلس خلفى دائمًا ليعزف بالعود فى كل الحفلات ولم ينسحب يومًا إلا عندما لحن لى عبدالوهاب أغنية (توبة)، يومها قال لى: (اسمع يا عبدالحليم، أنا وكمال الطويل بنحب بعض، بيسمعنى ألحانه قبل ما يذيعها، وبيسمع ألحانى قبل ما تتذاع، علشان كدا أنا أرضى أعزف ألحان كمال خلفك، أما غير ذلك فلا)، وحدث مرة أن سجل الموجى لحنًا وفوجئ بأن عبدالوهاب جاءه نفس الخاطر الموسيقى، وبعدها قال لعبدالوهاب: (اللحن ده أنا قلته)، فرد عبدالوهاب: (غريبة مسألة توارد الخواطر دى، نادر ما بتحصل)، وهنا صمت الموجى وأصبح لا يمسك بالعود أبدًا أمام أى موسيقار إلا كمال الطويل».

يحكى حليم أنه كان سببًا فى رجوع الملحن الكبير محمد الموجى لزوجته وأولاده بعد نزوة كان لها أثرها: «عرفت أنه عرف واحدة تغنى فى كباريه، وأنه أخفى خبر زواجه عنى، حزنت لأنه اختار لنفسه واحدة لا تليق به، غضبت منه، وقلت له لا بد أن تطلقها، وبالفعل طلقها الموجى ورجع لزوجته وأولاده».

أما عمر الشريف فحكى حليم أنه كان صديقًا مخلصًا له، وكان يسافر له لكى يجد أذنًا تسمعه، ويظل عمر يحكى ويحكى: «العالم الذى يحياه عمر الشريف عالم يشعر فيه بالوحدة، وبالحاجة إلى الصديق، وكنت دائمًا هذا الصديق، وأذكر أنه علم فى مرة أننى لم أستطع سداد ديون ٢٠٠٠ جنيه إسترلينى لشركة تحميض الأفلام التى كانت تحمض فيلم أبى فوق الشجرة، طار عمر الشريف وسدد المبلغ وقال لى غاضبًا: (لماذا لم تقل لى؟)، وسددتها له بعد ذلك شركة صوت الفن».

كما يحكى حليم عن صديق اختار دور الخائن: «الحكاية من البداية أنه كان زميل رحلة عمر، كان يرهق نفسه بمديحى ولم أكن أصدقه، لدرجة أننى طلبت منه مرة أن يتوقف عن ذلك ليقول لى عيوبى، وفوجئت به بعد ذلك يهاجمنى وينقل أقاصيص كاذبة عنى، ولأنى أحب المواجهة واجهته بما قال أمام من قال فتلعثم وكدت أبكى أنا لأنه اختار هذا الموقف».

أما موسيقار الأجيال فيحكى عنه حليم أنه بعد أن غنى فى الإسكندرية ولم يقبله الجمهور ركض إلى سيارة مجدى العمروسى، ومنها إلى فيلا عبدالوهاب وشكى له ما حدث فأدخل عبدالوهاب يده فى جيبه وأخرج منها ورقة مالية وضعها فى يد عبدالحليم، لكن الأخير رماها على الأرض: «أستاذ عبدالوهاب، أنا جاى علشان تسمعنى مش طالب فلوس، وكان جيبى خاليًا لكننى لم أقبل هذا الوضع، كنت أريد أن أقف أمام عبدالوهاب لأعرف السر فى أنه صعد إلى عرش الفن خمسين عامًا بلا منافس، ولكنه فى هذا اللقاء لم يفهمنى، وخرجت من بيته فى جليم إلى عربة العمروسى وكانت رحلة من الدموع، ولم أر عبدالوهاب منذ ذلك التاريخ إلا يوم استدعانى إلى مكتبه فى شارع توفيق وغنيت على ضوء أباجورة قديمة وكان معى محمد الموجى ووقعنا عقد فيلمين وأسطوانات وغيرت شروط العقد».

وروى حليم تفاصيل قصتى حب عبدالوهاب: «أولهما كان فى السادسة عشرة من عمره، وكان أخوه الشيخ حسن قد اقتنع أخيرًا أنه لا مفر من الرضوخ لرغبة عبدالوهاب والاعتراف بها، وكانت جارته أرملة حسناء دعته إلى منزلها ليرى البيانو الجديد الذى اشترته ولم تعزف عليه، وعندما ذهب إليها بدأ فى العزف على البيانو وظلت تسمع، وعندما ذهب إليها فى المرة الثانية متسللًا بهدوء عرف أنها تصاحب أحدًا آخر لا يعزف على البيانو لذلك جرى من البيت كطفل صغير».

يكمل: «هناك حب آخر على المركب، كان فى رحلة مع أمير الشعراء أحمد شوقى والتقى واحدة عرف أنه الحب ولم يجرؤ على الاعتراف بقصة حبه لأمير الشعراء وكتم فى قلبه دموع الفراق».

رفضت بيان إذاعة انقلاب المغرب.. وقلت للملك: عاملنى كمواطن مغربى

يروى حليم أنه رأى ولى عهد المغرب لأول مرة حين حضر الملك محمد الخامس ملك المغرب لزيارة مصر، لافتتاح السد العالى بدعوة من ناصر، وتقدم حليم لتحيتهما وسلم على الأمير، وصعد الأمير على عرش المغرب وسافر له حليم مع بعثة صوت العرب، وغنى هناك، ودعاهم الأمير لحفل فى قصره، بعدها حدثت مناوشات بين المغرب والجزائر وقاطعت المغرب كل الفن المصرى، وبعد هدوء السحابة ورجوع الأمور لمجراها عاد كل شىء ما عدا أغانى حليم وأفلامه، فأمسك بالقلم وكتب رسالة للملك الحسن: «أكتب لجلالتك فقط لأعرف السبب فى منع أغنياتى وأفلامى، ليس هذا لأنى أريد أن تذاع، فأنا أعرف رن أى راديو فى المغرب ينقل صوتى من المحطات الأخرى لأى إنسان فى المغرب، وأنا لا أحب أن يتخذ ضدى قرار لا أفهمه ولا أعرف أسبابه، وإن كان هناك أى اتهام لى فإنى مستعد لمواجهته، حتى لو اقتضى ذلك أن أقف أمام أى محكمة مغربية وأحاكم كمواطن مغربى إن كان قد صدر ما يسىء منى إلى المغرب».

وبعد مدة من إرسال الخطاب تلقى حليم دعوة لحضور عيد ميلاد الملك، وغنى حليم للملك وللقدس وللوحدة، وكانت أواصر العلاقة قوية: «فى إحدى الزيارات عام ١٩٧١ قال الملك لى إنه قرر أن يدخل معى تحديًا هو أن يضع كل إمكانات الطب فى مواجهة مرضى، وسافرت على نفقته لأمريكا وكانت اكتشفت طريقة جديدة لمواجهة مرضى وهى أننى لا بد أن ألزم السرير شهرين سنويًا لإجراء الفحوصات وللعلاج».

ويذكر حليم الانقلاب الذى حدث ضد الملك وكيف طلب منه إذاعة خبر مقتل الملك تحت تهديد الرصاص وكيف رفض حليم ذلك بقوة: «أنا مصرى ولا أنتمى للبلد الذى تجرى فيه هذه الأحداث، ويمكن أن يساء فهم كل شىء عندما يذاع البيان بصوتى، واتجه الجنود إلى ملحن مغربى ليذيع البيان».

فى التاسعة مساء استطاع عبدالحليم إقناع ضابط أن يتحدث فى التليفون وطلب الفندق وأخبرهم أنه بصحة جيدة، بعدها وفى الحادية عشرة تم احتلال مبنى الإذاعة من قبل جنود الملك، وجنود الانقلاب ١٥٠٠ جندى كانوا حول المبنى، وزحف حليم تحت وابل الرصاص واحتمى بأحد المنازل وتسلل إلى الخارج، وانتهى الانقلاب «بعدها داهمنى النزيف وغبت عن الوعى ٣ أيام كاملة».