رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من «عفريت المحمل» إلى «الحج الافتراضى»

ما بين مشاهد القرن الثامن عشر ومشاهد القرن الحادى والعشرين انتقلت طقوس رحلة الحج لدى المصريين من الدائرة الواقعية والمشاهد التى يتم إخراجها على الأرض إلى المربع الافتراضى، حيث يجلس المسلم أمام شاشة فى بيته ويتابع أو يمارس طقوس الحج، وكأنه هناك بين الحجيج الواقعيين.

الفجوة بين أحوال الماضى وتفاعلات الحاضر تمثل الفارق بين مشهد عفريت المحمل ومشاهد الحج الافتراضى. أيام الحج بالجمال الذى كان يمثل خروج المحمل أهم مشاهده، عرف أهالى القاهرة- فى عصر المماليك- شخصًا اصطلحوا على تسميته بـ«عفريت المحمل». يحكى عبدالمنعم شميس فى كتابه «شخصيات مصرية» أن هذا العفريت كان يقوم بالرقص والشقلبة والتهريج أمام جمل المحمل أثناء طوافه فى القاهرة حاملًا كسوة الكعبة، وكان دوران المحمل من أيام الاحتفالات المهمة فى حياة المصريين، مثل الاحتفال بوفاء النيل، لأن دوران المحمل كان يتم استعدادًا للحج إلى بيت الله الحرام كل سنة. وعفريت المحمل رجل مهرج يرتدى ملابس حمراء مكونة من سروال وقميص وعلى رأسه طرطور أحمر أيضًا.. وهو يجيد لعب الأكروبات، كما يجيد الرقص على أنغام الطبول والمزامير التى تمشى فى موكب المحمل.

عفريت المحمل تحول فى الحاضر إلى عفريت افتراضى، يتشقلب أمام مستخدم مواقع التواصل الاجتماعى ويدعوه إلى ممارسة الطقوس الدينية عبره. فى موسم الحج عام ٢٠١٧ كان أحد الدعاة يقف على جبل عرفات يوم المشهد العظيم، وإذا به يخرج «لايف» على متابعى حسابه على أحد مواقع التواصل ويدعوهم إلى الانخراط فى طقس الدعاء «يوم عرفات». أثير لغط وجدل كبير على مواقع التواصل الاجتماعى حول طقس «الدعاء الافتراضى»، وتنوعت الآراء بين مؤيد يعتبر أن توظيف منصات التواصل فى أداء الطقوس العبادية يمثل أخذًا بمعطيات تكنولوجيا العصر فى الممارسة الدينية، ورافض يرى أن الإطار الافتراضى لا يمثل إطارًا صالحًا لأداء العبادات.

وأوائل عام ٢٠٢٠ ومع تفشى فيروس كورونا وتتابع موجاته بدأ البعض يتحدث عن ضرورة رقمنة العبادات الدينية، بشكل يتيح أدائها عن بعد. البعض دعا إلى أداء صلاة الجماعة بشكل افتراضى لمواجهة تداعيات تفشى الفيروس، وأشار إلى أن اللجوء إلى صلاة جماعة عن بُعد، لا يختلف عن التعليم عن بُعد، أو العمل عن بُعد، وذكر أن ممارسة العبادة بهذا الشكل سوف تخلق شعورًا دينيًا جماعيًا، وإحساسًا روحيًا مشتركًا قد يعوّض بلا شك التلاحم الجسدى التقليدى. لم يتوقف البعض عند ذلك بل دعا أيضًا إلى تطبيق أساليب الرقمنة على الحج عن طريق استخدام التكنولوجيا التى تجمع بين إمكانات الميتافيرس والتواصل الاجتماعى. وفى هذا السياق طورت إحدى الشركات الألمانية برنامجًا تفاعليًا للحج الافتراضى. وتقول الشركة إن البرنامج تم تنزيله من قبل أكثر من مليون مستخدم حول العالم بعد القيود التى فرضت على الحج خلال انتشار جائحة كورونا.

وفى ظل حالة الهوس بالرقمنة الدينية وظهور مصطلح «الإسلام الرقمى» ظهرت العديد من الانتقادات للخطاب الدينى الذى يقدم عبر مواقع الإنترنت وحسابات التواصل الاجتماعى. تحفظ البعض على طبيعة وسمات الخطاب الدينى الذى تكرسه أدوات الإسلام المرقمن لدى الجمهور، والذى يختزل الدين فى مجموعة من الأفكار التى يتناولها المتلقى بصورة سطحية ودون تعمق فيها، تحدث البعض أيضًا عن مخاطر مفهوم «المجموعة المغلقة»، الذى تعتمد عليه منصات التواصل، وما يمكن أن تؤدى إليه من تقوقع من جانب الفرد وانغلاق على المجموعة، وانقياد لروح القطيع فى تشكيل عقله الدينى، يضاف إلى ذلك انتقاد بعض أشكال التعبد الافتراضى وما أوجده من أدوات مثل تطبيق المسبحة الإلكترونية، وتطبيق المؤذن الإلكترونى، ونغمات الأدعية والآيات القرآنية وغير ذلك.

فى كل الأحوال تبقى المؤسسة الدينية المسئول الأول عن تحديد درجة شرعية هذه الممارسات. فالتجول الافتراضى فى الأماكن المقدسة بات جزءًا من ثقافة الواقع، وقد يتضخم فى المستقبل ويتمدد إلى كل طقوس الحج ليتم أداء مناسكه بصورة افتراضية كاملة. ولعلك سمعت عن  «مبادرة الحجر الأسود الافتراضى» والتى أثارت جدلًا واسعًا بين مستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى فى الدول العربية والإسلامية. وأطلقت المبادرة وكالة شئون المعارض والمتاحف، ممثلة فى الإدارة العامة للمعارض الرقمية، وتهدف إلى استخدام الواقع الافتراضى والتجارب الرقمية التى تشير إلى محاكاة الواقع الحقيقى.

عجلة الزمان تدور فتأخذ فى طريقها كل العادات الموروثة، ورحى التكنولوجيا تطحن كل الأفكار القديمة. وما أعظم الفجوة بين المشهد الأول لظهور جبل الرحمة بعرفات على مسرح الحياة البشرية، ومشاهد الحج الافتراضى. لقد نزل آدم إلى الأرض بعد أن عاقبه الله تعالى على خطيئته، حين أضله الشيطان وجعله يأكل من الشجرة التى نهاه الله عنها. وكذلك حواء شريكته فى الخطيئة. وشاءت إرادة الله تعالى أن يمضى كل منهما فى طريق، ليخوضا رحلة التيه، ويشرع آدم فى البحث عن نصفه الآخر، المرأة التى خرجت من ضلعه. يجوب الأماكن كما تحكى كتب التراث من الهند حتى جدة، باحثًا عن حواء، ليتعارفا بجبل عرفات فلذلك أطلق على الجبل هذا الاسم. أراد الله تعالى أن يجعل ذلك اللقاء الخالد «لقاء رحمة»، بسبب وعيد الشقاء الذى توعد به آدم إذا عصاه وأكل من الشجرة التى نهاه عنها. كانت حياة آدم فى الجنة هادئة هانئة سخية، لا تعب فيها ولا إرهاق، ولا نصب فيها ولا وصب، وإنما سعادة دائمة ونعيم مقيم، وكان نزوله إلى الأرض هو الجحيم بعينه، لأنه سينزل من «الراحة الخالدة» إلى «الشقاء الخالد».

فهل بحث بنى آدم على آلة راحة قادرة على امتصاص ما يكابدونه من مشقة فى الحج عبر برامج الحج الافتراضى يتسق مع الحكمة العالية التى تنطوى عليها الشعائر المقدسة؟.. الإجابة عند المؤسسة الدينية.