رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى محبة سينما فلسطين (الجزء الأول)

من النظرة الأولى لأعمال المخرج الفلسطيني (إيليا سُليمان) نجد أنها من ذلك النوع من الأفلام الذي يحتاج لعدة مشاهدات لتفكيكه والاستمتاع به، وهذا النوع ليس معتادًا في السينما العربية بل والفلسطينية أيضًا، لأن فيه قدرًا عاليًا من الحكي الذي يتسم بالطرح الجرىء والشجاع في كسر الأنماط السردية المعتادة والمتعارف عليها.
يتحرك (إيليا) من كونه ذاتًا لها وعي مُستقل ولا يُلزم نفسه برواية مُعينة، بل ينطلق من شهادات فردية ويمنح نفسه حُرية تامة للتحرك في المكان والزمان.
السرد في سينما (سليمان) يتحرك دومًا في متوالية ولا يلتزم فيها بخط تقليدي ويعتمد على الموقف ويعتني بالمهمش ويحتفي بالعادي واليومي بهزلية لا تُغيّر الحقائق، ولكنها تؤكد على ارتيابه من التجربة المُشتركة وانتصاره للفرد بتفاصيله اليومية وقلقه اللحظي وعاطفته المُتغيرة، (إيليا سليمان) لم يحك قصة فلسطين كفلسطيني أرضه محتلة أو في الشتات.
لذلك يبتعد (إيليا) عن الأفكار السائدة في الدفاع عن القضية، فأفلامه لا تبدأ من الأرض بل من الذاتي واليومي والعادي، وبدلًا من الاهتمام بالسرد الجُغرافي يحاول حشد أكبر قدر من التفاصيل اليومية ليصنع حبكة صوريّة لحياة الفلسطينيين في الداخل وكيف يراهم الآخر.
يحاول (إيليا) نقل الوضع الداخلي الدائر في شوارع فلسطين، والنظر في دواخل الفرد الفلسطيني بعد أن أصابته لوثة القلق الهوياتي تحت وطأة الاحتلال الذي سلب الفلسطينيين حق الوجود المُستقل ككائنات فردية، ليلبثوا في أماكنهم ويصبحوا مُجرد تمثيل رمزي لكيان فلسطيني يحاول النهوض من عثراته وإخفاقاته.
ويخلق (إيليا) في ثلاثيته الشهيرة (سجِل اختفاء، يد إلهية، إن شئتَ كما في السماء) لغة سينمائية تمزج بين التوثيق والسرد الدرامي، ويستخدم منهجية الكاميرا الثابتة (the Static Camera) وهي تقنية صعب تطويعها في ظل الانفتاح الحداثي وفي ظل المجتمعات الرأسمالية وفكر النيوليبرالية والعولمة والتي تُطالب بنوعية مُعينة من الأفلام ذات السرد المُتلاحق المتشظي السريع اللاهث والمحموم غير أنه يطوّع الكاميرا ليمزج بين نزعة تسجيلية لظواهر اجتماعية تُكثف عاطفة الفرد، وبين سردية ذاتية مُركبة تتسم بالهدوء والكوميديا السوداء.
أفلام (سُليمان) غرضها طرح الأسئلة وليس الإجابة عليها وإرشاد الحائرين.
يقطع (سُليمان) حبكة الفيلم، ويصنع تتابعًا له صوت مُعين، ثم يُخِل بهذا التتابع على نحو ساخر، ويخلق تتابعًا آخر بصوت مُختلف، يوقف الزمن ليُعبئ أكبر قدر من العاطفة، كأنه يصنع تشوهات في الزمان حتى يصل للنهاية، ويدفع الأحداث لأكثر من ذروة وفي النهاية يجمع كُل هذه الوقفات لتشهد على تمزق الهوية الفلسطينية الذي سعى وعمد على تشويهها كثيرون ليخلق هو صورة تسمو فوق التعريف الأيديولوجي لما يعنيه أن تكون فلسطينيًا، صورة بعيدة تمامًا عن أي صور نمطية معتادة.
وتتضافر جميع السمات الفيلمية التي يحوّرها سُليمان وتُظهر المساحة الخاصة به، مساحة تتسم بطابع شعري تُعبّر عن هواجسه وتخيُلاته وتصنع هويته المشوشة وتوضح علاقته بالأرض ذاتها.
هذه المشاهد الساخرة والفانتازية تؤكد منهجيته المُتحررة من السرد التقليدي، مثل أن يختار قصة من بين قصص كثيرة، قصة موجودة في الواقع اليومي، يخلع عنها رداءها اليومي فتبهت القصة، لكن خلف كُل تلك الأقاصيص الصغيرة قصة أكبر على المُشاهد أن يكتشفها، قصة عن معنى الهويّة الفلسطينية.
في أفلام (سُليمان) تظهر مشاهد ساخرة وغير قابلة للحدوث في العالم الواقعي، ففي فيلم (سجل اختفاء)، يبث الراديو أخبارًا مُضحكة وغريبة وليس لها وجود، بنت جميلة تحاول البحث عن مسكن ورغم جمالها لا تجد، رجُل عجوز يهزم مجموعة من الشباب، جنود يقتحمون منزل إيليا ولكنهم يتجنبونه كأنه ليس موجودًا مثل هواء، لا ينتمي لهويّة معنوية وليس له وجود ماديّ.
وفي «يد إلهية»، يستعين الضابط بشاب مغشي على عينيه بقماشة لكي يصف لفتاة الطريق، والغريب أنه يستطيع وصف الطريق للفتاة وهو مُعمى، وعلى هذا المنوال تتقدم القصة مشحونة بسرد فاقد للمنطق ولكن له دلالة يتلقاها المُشاهد ويفسرها حسبما يريد.
يرتبط (سُليمان) في حكيه بالمكان، فهو دائمًا ما يصوّر أفلامه في الناصرة، لأنه المُجتمع الذي يعرفه أكثر من غيره، أو لا يعرفه ويستكشفه عن طريق أفلامه.
وفي كثير من الأحيان يستخدم (سُليمان) المنزل الذي لا أحد يدخل إليه أو يخرج منه إلا بإذن مسبق، فالمنزل يحمل ذاتية وهوية سليمان نفسه، ويتكلم فيه عن نفسه من خلال الصورة، في مقابل طبقة ثانية خارجية، هي كل ما يقع خارج المنزل، والذي يظهر فيها المجتمع الفلسطيني المُشتّت بفعل الاحتلال وجرائمه التي لم تتوقف يومًا.
ويستخدم (إيليا) نفسه سينمائيًا أحيانًا كعنصر صامت يكتفي بالحركة وبالتعبير بالجسد، لا يتكلم إلا في مناسبات قليلة جدًا، يستخدم العيون لتصدير المشاعر، واليدين للتعبير عن الحُب والشوق، كما في مشهد السيارة، حيث يُمثّل الفرد الفلسطيني المحروم من الكلام.
في ثُلاثيته لا يهتم سليمان ببناء الشخصيات ولا يُمهد للمشاهد، بل يترك الشخوص تتحرك في المشهد فقط، بدون سابق معرفة بهم تظهر دون سبب وتختفي دون سبب، وحينما تظهر تقوم بأفعال عادية وبأشياء مألوفة لحظية حسب المواقف، ولكنها تُعبر عن عاطفة مُكثفة بحيث يتم التعرف على كُل الشخصيات عن طريق العقل أو العاطفة، لا عن طريق نتائج ملموسة تظهر بالتتابع لأن الكثير منهم يختفون ولا يعودون إلا في مشاهد خاطفة، ولا يضمنون إكمال قصة أو إظهار نتيجة، كأنها لعبة اختفاء وظهور.
محظوظة فلسطين بأبنائها ومبدعيها الحقيقيين من أمثال (رشيد مشهراوي) والذي كتبت عن فيلمه الأخير الذي عرض في فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الأخيرة وهو فيلم (يوميات شارع جبرائيل) و(ميشيل خليفي) والذي سأكتب عنه في الجزء الثاني من هذا المقال، وبالطبع ابن الناصرة (إيليا سليمان) والذي استطاع إيصال صوت فلسطين وقضيتها للعالمية دون تفريط وبعد أنسنتها وتخليصها من التقزم الذي أصابها والذي أراده البعض لها بفعل الهوس بتعريب القضية وأسلمتها لتسليمها للصهاينة على أطباق من الذهب والفضة.