رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد عبدالعزيز يكتب: رموز حقوقية.. القديس والعروبى والفقيه 2- 2

أما الرمز الحقوقي "القديس"، الذي لم ألتق به وإن كنت تشرفت بحضور حفل تأبينه في نقابة الصحفيين عام 2006 حين توفي عن ثلاثة وثمانين عامًا، فهو أحمد نبيل الهلالي، الذي تنازل طوعًا عن عيشة القصور التي أتيحت له بحكم نشأته كابن وحيد لآخر رئيس وزراء مصري في العهد الملكي، ورغم تلك النشأة الأرستقراطية إلا أنه انقلب عليها وانضم للحركة الشيوعية، فكان هو المحامي الوطني والمدافع الأول عن حقوق العمال والفلاحين، ومن أبرز المنادين بالحريات العامة حتى إنهم أطلقوا عليه لقب "قديس اليسار".
واقتناعًا بما آمن به يضحي الهلالي بعيشته المرفهة كأحد أبناء الطبقة الأرستقراطية، ويُقَابل بتعنت متوقع من والده، ثم يدفع ثمن ما آمن به؛ إذ يقضي في السجن ما يزيد عن عشر سنين في قضايا رأي متعددة، غير أنه يتمسك بما آمن به ويضحي في سبيله ليس فقط بحريته بل بالمال والمكانة أيضًا، ليصنع لنفسه بعد ذلك مكانة متميزة في قلوب الوطنيين الحالمين بعدالة اجتماعية تتسع للجميع وتستوعب الفقير قبل الغني.

وفي إحدى مرافعاته يقول الهلالي، الذي يعد أحد المؤسسين الأوائل للجنة الحريات في نقابة المحامين: "الفكر، أي فكر، اتفقنا معه أو اختلفنا، لا يجوز أن يكون موضع تأثيم أو محل تجريم، أو حتى هدفًا للازدراء والتحقير بمقولة، إنه بضاعة مستوردة، فالفكر والعلم لا وطن لهما ولا جنسية، إنهما ملك لكل الإنسانية".. وخلال مسيرته المهنية رفض تمامًا قبول قضايا المخدرات والآداب.

أما ثاني الرموز الذين أتشرف بذكرهم في هذا المقال فهو الحقوقي الكبير د. عصمت سيف الدولة، وقد جاءت معرفتي به أديبًا عندما قرأت كتابيه "مذكرات قرية" و"مشايخ جبل البداري" اللذين كتبهما بأسلوب أدبي غاية في البلاغة والرقي، ويروي فيهما السيرة الذاتية لوالده الشيخ عباس.
غير أنه يتجاوز الذاتي إلى العام حين يسجل في الجزء الثاني سيرة ثورة 19 ورجالها في الصعيد وكيف صنعوا ملحمة الوحدة الوطنية خلالها، ومن أقوال الرجل المأثورة: "إني أقاتل بما أكتب في سبيل أمتي ووحدتها القومية، حيث تدور المعارك مع الأعداء واحتمالات النصر أو الهزيمة، ولست معنيًا ولا أنا أجيد ترتيل أناشيد النصر للمنتصرين".

وللرجل مواقف وطنية وقومية كثيرة، لعل أبرزها تصديه للدفاع عن المعتقلين على إثر أحداث 18- 19 يناير 1977، والتي أبدع فيها مرافعة بليغة "دفاعًا عن الشعب"، أو هكذا اصطلح على تسميتها.

وبروح المعارض الوطني كانت له مواقف من عدد من الأحداث التي مرت بها دولتنا بل وأمتنا، فلا تنسى له مواقفه من توقيع معاهدة السلام، ومن دعم الموقف العربي المناهض لاحتلال الأراضي العربية، ومن تحذيره المبكر من بيع القطاع العام وسياسة الخصخصة.
وهو القائل: "نصبح منهزمين عندما نستمع إلى الأعداء والمتخاذلين وهم يحاولون أن يغرسوا في رءوسنا بذور اليأس لنقبل الواقع فنتخلى عن المستقبل".
وهكذا ظل مدافعًا عن مبادئه ومواقفه وعن المظلومين حتى توفاه الله في آخر مارس 1996، ويلقبه محبوه بـ«العروبي» بل «شيخ العروبيين».

"يعرف الذين ضربوا بسهم وافر في المحاماة أن وسيلتها للإقناع مجدولة من شحنة من العلم والمعرفة، ومن البيان وامتلاك اللغة، ومن القدرة على الاستنباط والاستشهاد، ومن اتساع العقل والفكر إلى براعة الاستدلال بالحجة والبرهان وامتلاك الأسماع والتأثير، في غير ملالة ولا تنفير، وهذا تتلاقي فيه الموهبة مع فن الإلقاء مع حضور البديهة"..
هكذا لخص ثالث الأقطاب، الذين نتحدث عنهم في هذا المقال، سبل نجاح المحامي في مهمته، وكيف لا وهو نقيبهم الراحل رجائي عطية.. ولا أجد أي شبهة مجاملة في قولي إنه فوق ذلك كان "الفقيه" فقد كان كذلك بالفعل كحجة في القانون وكمفكر إسلامي مستنير.
ولأن الرجل كان بليغًا وكان حكيمًا في ذات الوقت فقد ترك لنا عددًا كبيرًا من الكتب، من بينها القانوني مثل "رسالة المحاماة"، والفكري ومنها: "ماذا أقول لكم" و"تأملات غائرة"، والدراسات الإسلامية التي أذكر منها "من هدي القرآن" و"أبوذر الغفاري"، والأدبي مثل "الإنسان العاقل وزاده الخيال".
غير أن ما صاغه من مأثورات قد بلغت قمة الحكمة وغاية البلاغة، منها مثلًا قوله: "اجتنب مصاحبة الكذاب، فإن اضطررت إليها فلا تصدقه، وحذار أن تعلمه أنك كشفت كذبه فيواري أمره ويضمر إيذاءك بطبعه"

ومن فضل الله على مصر أن أطال- سبحانه- في عمر الرجل ليكون أحد أهم الأصوات التي  نبهت المصريين ضد الخطر الإخواني، وثبت رجائي في مواجهتهم وهم في قمة جبروتهم وقد اعتلوا المناصب التنفيذية والتشريعية، ولم يأبه لغطرستهم ولم يرضخ لتهديداتهم.
وكان أن مّن الله عليه في أواخر عمره بمنصب النقيب الذي ترشح ليناله عدة مرات فكانت السياسة والتوازنات تحول بينها وبينه، ويبقى اسم الرجل ومواقفه الوطنية والمهنية مصدر فخر وامتنان لكل الأوفياء من أبناء الوطن عامة والمنتسبين لمهنة القضاء الواقف خاصة.