رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«السندريلا».. محمود عوض يروى كيف تحولت «سعاد» إلى «زوزو»

«السندريلا»
«السندريلا»

لا يذكر أحد اسم سعاد حسنى على لسانه، إلا وتقفز فى مخيلته المئات من الصور التى ليس لها مثيل، فى الجمال والظرف والأناقة والبهجة وخفة الظل، إنها السندريلا فتاة أحلام أجيال كاملة من الشباب والموهبة الجبارة المتنوعة بين التمثيل والغناء والرقص، أو كما يقال: «بتعرف تعمل كل حاجة».

فى ذكرى وفاتها التى تحل فى ٢١ يونيو من كل عام، تستعيد «الدستور» جوانب من حياتها، كما أوردها الكاتب الصحفى الكبير محمود عوض فى كتابه: «من وجع القلب»، الذى ضم مقالات متنوعة للكاتب الكبير فى كثير من الموضوعات.

فى سنوات سعاد حسنى كان الزمن بخيلًا وسخيًا. حليفًا وعدوًا، دافعًا لها وسيفًا عليهـا. هى من أسرة رقيقة الحال ضمت ١٧ أخًا وأختًا. الأب خطـاط موهوب لكنه مـزواج. البنت الصغيرة اللهلوبة تمثل على نفسها وتعيش فى تقاطع من خلافات دائمة بين أبوين مطلقين. فى السياق أصبحت شقيقة كبرى لها من الأب- هى نجاة- مطربة فى الإذاعة.. وصغيرة. سعاد أيضًا شـاركت أحيانًا فى برامج «بابا شـارو» للأطفال بالإذاعة المصرية. 

إنما التحول الكبير الأول فى حياة الصبية سعاد حسنى جاء من مكتشفها: عبدالرحمن الخميسى.

لم أعاصـر عبدالرحمن الخميسـى. وبالدقـة تقابلنا ثلاث أو أربع مرات فى عصر ما قبل التاريخ. أقصد تاريخ بدايتى المتواضعة فى الصحافة. ومن موقع هو أبعد ما يمكن عن نموذج عبدالرحمن الخميسـى. لكن فيما قرأته عنه وأعرفه كوقائع عامة.. فإنه كان شخصية استثنائية. لم يكن كاتبًا فقط.. وإنما كاتب وشاعر وقصاص ومترجم وموسيقى ووفدى وناصرى ومسرحى وناشـر ومنشور ودائن ومدين وعاشق ومعشوق ومستور ومفلس وعاطل وصاحب فرقة مسرحية وجائع، ثم هو سبب اختفاء الكباب من بر مصر بين ليلة وأخرى. لم يبق فيما قرأته عنه سـوى أن يكون عبدالرحمن الخميسـى: ضابط احتياط. وبجسمه فارع الطول، كان من الممكن أن تصدق عليه.

عبدالرحمن الخميسى إذن هو المكتشـف الأول لسعاد حسنى. عنده قصة طقت فى دماغه اسمها «حسـن ونعيمة» ليست ابتكارًا ولا اختراعًا ولا فتحًا مبينًا. إنما أصبحت فكرة رحبت الإذاعة المصرية بها أولًا كمسلسل يومى لثلاثين حلقة أصبحت بطلته السيدة «كريمـة» مختـار فى دور «نعيمة»، باعتبـار أن الإذاعة تعتمد بالدرجـة الأولى على الموهبة الصوتية. ومؤخرًا فقط سمعت حوارًا مذاعًا مع السيدة كريمة مختار قالت فيه، بكل محبة ورقة ومودة، إنها مع تطور الحلقات لاحظت أن الخميسى يجىء معه إلى الاستوديو فتاة شابة متقوقعة ومنكمشة فى أحد أركان الاستوديو بغير أن تنطق بكلمة. مع الوقت عرفت كريمة مختار أن الخميسى يفكر فى تحويل المسلسل الإذاعى فيما بعد إلى فيلم سينمائى، وأن تكون هذه الفتاة المنكمشة- اسمها سعاد حسنى- هى ونعيمة، على الشاشة البيضاء، وأنه يجىء بها فى كل تسجيل بتنبيه واحد عليها: اجلسى هنا صامتة تمامًا لكى تتعلمى من كريمة مختار فن استخدام الصوت فى التعبير عن مشاعرك الداخلية.

الخطوة التالية أصبحت مشروع فيلم، ليكون من إخراج هنرى بركات المعروف عنه أنه مخرج أفلام فاتن حمامة والرومانسية المرتبطة فى نفس الوقت بشباك التذاكر. 

أما المفاجأة الحقيقية فهى أن يصبح محمد عبدالوهاب «ضمن شركته مع عبدالحليم» هو منتج الفيلم. وبتلك الصفة يصبح محمد عبدالوهاب هو قانون السوق.. شخصيًا. قانون اللعب فى المضمون والمغامرة فقط بأسماء لها رصيد مسبق عند الجمهور وفى شباك التذاكر. فى هذه المرة أصبح لمحمد عبدالوهاب الفنان الصوت الأعلى من عبدالوهاب المنتج. إنه هنا لا يغامر بفلوسه فقط على وجه جديد مجهول لفتاة اسمها سعاد حسنى، وإنما شريكها فى البطولة هو أيضًا وجه جديد لمطرب ناشئ اسمه محرم فؤاد.

لكن الفتاة الشابة الطموحة سعاد حسنى حينما طلب محمد عبدالوهاب مجيئها ليرى بنفسه أولًا صلاحيتها للشاشة البيضاء فوجئ بها تقول له بكل جرأة: والنبى يا أستاذ عبدالوهاب.. أنا فى دور «نعيمة» نفسى كمان.. أغنى. 

سألها عبدالوهاب بكل وقار واهتمام: والله؟ لك فى الغناء؟ وكمان جدًا جدًا؟ طيب سمعينى حاجة أنت حافظاها وتغنيها. 

وبجرأة أكثر.. إذا بتلك الفتاة تغنى لعبدالوهاب أغنيته الشهيرة «كل ده كان ليه». 

تنحنـح عبـدالوهاب بكل صبر وأدب قائلًا لها: صوتك فيه حاجة «جيدة؟ سيئة؟ لم يوضح» إنما يا شاطرة.. خبطتين فى الرأس توجع. كفاية دلوقت خبطة واحدة. كفاية نغامر بك أولًا.. كممثلة. أما الغناء فله مشوار ثانى لك مع نفسك وصوتك.

غامر عبدالوهـاب إذن كفنان ضد قانـون عبدالوهاب كمنتج، فى زمن تفتح على المواهب. والسينما المصرية فى ذروة عطائها الإنتاجى وكبار الفنانين يتحمسون للاكتشاف والاستكشاف. الزمن أيضًا صبور مع الموهبة. فحتى اللحظة التى قامت فيها سعاد حسنی ببطولة فيلمها الأول هذا فى سن السابعة عشرة لم تكن أكثر من موهبة خام قابلة للانطفاء أو اللمعان. لم تكن حتى تعرف القراءة أو الكتابة.

رعاية عبدالرحمن الخميسـى لسعاد حسنى جعلته يصبح مع الزمن واحدًا من ثلاثة كشافين كبار لمواهب تلك الفتاة وصاحب فضـل أساسى فيما ستصبح عليه عند الملايين من الجمهور.

كان إصرار سعاد حسنى على التعلم هو الأساس وسباقها مع الزمن أتاح لها بطولة أفلام بعد أفلام.. بعضها عادى المستوى وبعضها أصبح علامات مميزة بحجم فيلم «القاهرة ٣٠» عن قصة لنجيب محفوظ، وفيلم «الزوجة الثانية» عن قصة لأحمد رشـدى صالح.. وكلاهما من إخراج صلاح أبوسيف.

ومع ذلك كان الزمن الذى هو حليف سعاد حسنى فى تلك المرحلة.. هو الذى يدخرها لـدور عمرهـا فى بطولة فيلم «خلى بالك من زوزو» عن قصة لصلاح جاهين وألحان لكمال الطويل وسيد مكاوى.

كانت فى البلد نكسة كبرى منذ يونيو ١٩٦٧، وجراحة شاملة للحياة المصرية وإصرار متناهٍ علـى أن تكـون حرب يونيو فصلًا فى قصة ولكنها ليست خاتمة القصة، وجيش جديد يجرى بناؤه تحت القصف والقصف المضاد، ومليون شـاب يشكلون هذا الجيش معظمهم مـن المتعلمين وخريجى الجامعات أتاحهم استثمار سابق فى مجانيـة التعليم، وحرب استنزاف وزعيم يرحل ورئيس جديد يتولى السلطة وسؤال يفرض نفسه على الجميع: لماذا يتأخر انطلاق الجيش لتحرير الأرض؟

وسـط هـذا كله، بل ومع هـذا كله، لا بد أن تمضى الحياة ولا تتوقف. السينما لم تتوقف. لكن ماذا تقول السينما لملايين المعبأين المشتاقين ليوم الثأر؟ وفى حالة صلاح جاهين تحديدًا حينما يتحمس للكتابة للسينما، ماذا يقول؟ إن قال جادًا راح فى داهية. وإن قال هلسًا خان المليون جندى فى الجبهة. إذن.. ما العمل؟

جاء العمل فى هذا الفيلم «خلى بالك من زوزو» واحدًا من الإجابات عن جمهور سنة ١٩٧٢. لا سياسة بالمرة وإنما قصة حب.. قد تبدو ساذجة لأول وهلة ومجرد تسلية. إنما البطلة فتاة بسيطة شقية لهلوبة متعلمة من بين ملايين الفتيات فى مصر الجديدة. فتاة لا تتبرأ من ماضيها ولكنها تثق بنفسها ومستقبلها وتستطيع القول فى الضوء الساطع: إنها تحب الحياة وتدرك خياراتها ومستعدة لتحمل النتائج.

وحينمـا اختار صلاح جاهين سعاد حسنى لتكـون فتاته فى الفيلم السينمائى فقد أصبح هو المكتشف الثانى لها بعد عبدالرحمن الخميسـى. صلاح أيضًا يشترك مع الخميسى فى كونه صاحب «سبع صنايع».. شاعر ورسام وممثل وصحفى وزجال ومؤلف وسيناريست وقبل هذا وبعده.. عجينة خالصة من الموهبة والرقة والرومانسية والأحلام الكبيرة.

من بين الأحلام أن يكون الفيلم غنائيًا، وسعاد حسنى بطلته ترقص وتغنى. حتى هنا: لا مشكلة. لسعاد صوت غنائی مقبول وهى غنت فعلًا فى أفلام سابقة لكن من غير أن تترك بصمـة صوتية غنائية، إلى أن كيمياء الفن والحظ عند إشـارة مرور ذات يوم فى قلب القاهرة.

فى الإشـارة لوحت سعاد حسنى من سيارتها إلى الموسيقار كمال الطويل فى سيارته: نفسى أغنى.. ونفسى موت أغنى من ألحانك بالذات.

وبأسلوب كمال الطويل المجامل رد عليها بقوله: إن شـاء الله يا سوسو.. أنا كمان أحب إنك تغنى.

بعدها ذهب كل فى طريقه.. فإشارة المرور انفتحت. والإشارة خضراء.

فى المسـاء تليفون من صلاح جاهين، وعشرته الفنية مع كمال الطويل عميقة وناجحة وسابقة: أنا عندى سعاد فى البيت.. أنت صحيح وعدتها إنك تلحن لها؟.

أسقط فى يد كمال الطويل، وجرجر قدميه إلى بيت صلاح جاهين ليجد سعاد حسنی وآخرين، والحكاية فيلم جديد، والشغل فيه بمرحلته الأخيرة، وسيد مكاوى انتهى من تلحين أغنية باسـم الفيلم. والآن.. هذه هى الأغنية الرئيسية يا عم كمال حسب القصة. أغنية يـا واد يا تقيل. البطلة أمامك والمنتـج وراءك ولا مفر. عايز بيانو؟ أنا جاهز به لليوم ده.. تفضل.

تمعن كمال الطويل فى الكلمات. بسيطة وشعبية وتملأ النافوخ خبط لزق. إنما القصة إيه؟ والبطلة من؟ خلاص يا كمال، حكينا لك القصة عشـر مرات، وشخصية البطلة عشرين مرة. البيانو جاهز، ولا مفر. 

بمجرد أن جلس كمال الطويل إلى البيانو فى بيت صلاح جاهين تبخر نصف حماسه: يا صلاح.. هذا ليس بيانو.. هذا بوتاجاز متنكر فى شكل بيانو. 

سـواء هى طبيعة كمال الطويل، أو حظ سعاد، أو شقاوة صلاح جاهين، أو كيمياء اللحظة، فإن ما جرى فى نصف الساعة التالى شـىء لا يصدق. لقد ترك كمال الطويل البيانو واتجه إلى باب الحجرة، ووقف ينقر الإيقاع على خشب الباب ملحنًا الكلمات كوبليه بعد كوبليه.. وصلاح جاهين واقف إلى جواره بجهاز تسجيل. فى تلك الليلة لم يعرف أحد- بعد- أن لحنًا يمكن أن يولد بهذه الطريقة، ويتدفق به كمال الطويل بهذه السلاسة، كمـا لـو أنه مولود باللحن فى داخله. لم يدرك أحد أيضًا أن ما يجرى سيصبح سريعًا- قنبلة الموسم. 

إنمـا الأكثـر أهمية هو أن الجميـع لم يتصور أن كمـال الطويل يمكن أن يعود إلى التلحين بمثل تلك المصادفة. فى تلك الفترة كان قد هجر التلحين من أصله.. وانسحب قبل سنوات فى منتصف لحن وضعه لصديق عمـره عبدالحليم حافـظ وأغنية «بلاش عتاب.. فيما اعتبره عبدالحليم مفاجأة عمره.. فمشواره الفنى مع كمال الطويل سابق وناجح ومبهر.

وفى عشرات المرات، بعضها كنت شاهدًا عليها فى بيت عبدالحليم حافظ أو فى بيتى أو وسيطًا عند كمال الطويل من طرف عبدالحليم.. لم يتوقف أملى فى أن يسترد كمال حماسه ويعود إلى التلحين مرة أخرى.. ولعبدالحليم. الصداقة موجودة والود مستمر، وتهانى كمال بأغانى عبدالحليم الجديدة من ألحان بليغ حمدى متكررة. إنما.. أين أنت يا كمال من الموسيقى؟ موجود.. لكن بعيد عن الموسيقى.

الآن.. حتـى بعـد أن وضع كمال الطويل لحن أغنية «يا واد يا تقيل»، فى بيت صلاح جاهين، نسى الموضوع تمامًا وسافر إلى الإسكندرية. وبروايته هو فيما بعد.. فإنه لم يكن متأكدًا بدرجة كافية من أن صوت سعاد حسنى سيكون قادرًا على التعبير عن الروح التى وضعها فى هذا اللحن الخفيف السريع.

بالإسكندرية قالت له زوجته ذات صباح: ألن تسـافر إلى ستوديو مصـر بالقاهرة اليوم؟ هل نسيت موعد تسجيل أغنية سعاد؟ ومنذ متى تترك ألحانك هكذا كما لو أنها بلا صاحب؟ على الأقل تتأكد من حسن التنفيذ.

فى موقع التنفيذ والتسجيل باستوديو مصر بالقاهرة وجد كمال الطويل كل شىء تمام.. باستثناء لحنه وصوت سعاد حسنى. الفرقة الموسيقية مدهشة وعازفوها مقتدرون وقائدهم أوركسترالى بديع.. واللحن- ظاهرًا على الأقل- منضبط. إنما النتيجة صينى بدل العربى.. أو أوركسترالى بدل الشعبى.. أو فصاحة بدل الشقاوة. طيب. متشكرين يا أساتذة وتعالى هنا يا عمر يا خورشيد «عمر خورشيد عازف الجيتار».. يا محمود «محمود عفت عازف الناى البديع» ومعلش يا صلاح جاهين سأشرح لك فيما بعد بينى وبينك.

كمال منه للموسيقيين وبالتبعية للمغنية والمؤلف: يا أساتذة.. يا إخوانا.. معايا لو سمحتم. فلنبدأ من أول وجديد. هذه سعاد حسنى وليست سعاد محمد. القصة بطلتها بنت أُمها عالمة فى شارع محمد على. بتقول لولد بتحبه: يا واد يا تقيل يا مشيبنى.. ده أنـا بـالى طويل وإنت عاجبنى.. بس يا ابنى.. بلاش تتعبنى.. علشان عمرك ما ها تغلبنى.. معايا يا أساتذة؟ الغناء هنا يكون كده.. الآلات المهمة كده.. السرعة كده.. الإيقاعات كده.. يا أساتذة.. نجرب مع بعض؟ كمان بروفة تانى.. وتالت. 

بعد ساعات من الحفظ والتجربة والتسجيل وإعادة التسجيل وساعة بعد ساعة رضى كمال الطويل عن لحنه، واستلقى على كرسيه بالغ الإرهاق، استعدادًا للعودة بسيارته إلى الإسكندرية. لكن سيد مكاوى دخل عليه راجيا : يا أبو كمال.. إشـرافك. على شغلك نتيجته الشىء المدهش الذى سمعته. طيب أنا أعمل إيه؟ من يشرف لى على شغلى؟ أنا فى طولك وعرضك. لحنى أمانة تحت إشرافك.

فى الساعات المبكرة من الصباح التالى عاد كمال الطويل إلى الإسكندرية. بعد أسابيع خرج الفيلم إلى الأسواق و«مسوى الهوايل»، فى شباك التذاكر.. بأغانيه على ألسنة الملايين.

من تلك اللحظة تحولت سعاد حسنى عند جمهورها، بل وفى قرارة نفسـها، إلى «زوزو».. حتى فى التسجيل الموجود بصوتها على تليفونها المحمول كانت تقول: وأهلًا وسـهـلًا.. هنـا زوزو.. زوزو النـوزو كونوزو. وفى مداعبات المصريين اليومية وغزلهم أحيانًا أصبح مألوفًا استخدام تعبيرات من نوع: يا واد يا تقيل.. ما تقولش أمين شرطة اسـم الله.. ولا دبلوماسى؟ هى عبرت وأعطت فأجادت. والنتيجة المدهشة من الناس: شلال من الحب.